آخر تحديث :الخميس - 06 فبراير 2025 - 08:06 ص

كتابات


ارحلوا غير مأسوفٍ عليكم!

الأربعاء - 05 فبراير 2025 - 09:30 م بتوقيت عدن

ارحلوا غير مأسوفٍ عليكم!

كتب / غازي العلوي:

لم يعد الصبر خيارًا، ولم تعد المعاناة تحتمل ..

ارحلوا غير مأسوفٍ عليكم!


في عدن وسائر محافظات الجنوب، بلغ السيل الزبى، ووصلت الأوضاع إلى مرحلةٍ لم يعد بمقدور المواطن احتمالها. أزمةٌ تلد أخرى، وفساد يتغذى على آلام الناس، وحكومةٌ عاجزةٌ لا تجيد سوى تبرير الفشل، بينما يغرق المواطن في دوامة انقطاع الكهرباء والخدمات والمرتبات وارتفاع الأسعار .


منذ تشكيل مجلس القيادة الرئاسي والحكومة، تعلّق الناس بأملٍ أن تنقذهم السلطة الجديدة من هذا الجحيم، لكن سرعان ما تبددت الآمال، وتحولت الحكومة إلى عبءٍ ثقيل، يثقل كاهل البلاد بالمزيد من الفشل والفساد. لم نشهد أي تحسنٍ في الخدمات، ولم نلمس أي بوادر لإنقاذ الاقتصاد أو ضبط الأمن. الكهرباء تنهار، المرتبات لا تكفي لسد رمق العيش، المياه مقطوعة، والانفلات الأمني سيد الموقف. ومع ذلك، يستمر المسؤولون في تكديس الامتيازات لأنفسهم، بينما يطالبون الشعب بالصبر والتحمل!


الواقع يقول إن وجود هؤلاء أصبح ضررًا محضًا، لا فائدة فيه. فهم ليسوا فقط غير قادرين على إصلاح الأوضاع، بل أصبحوا عبئًا إضافيًا على الميزانية وعلى حياة المواطن. استمرارهم في السلطة يعني استمرار الفساد، واستمرار الانهيار. لم يعد هناك مبرر لبقائهم، ولم يعد هناك من يمكنه الدفاع عنهم.

إن رحيل مجلس القيادة الرئاسي وحكومته لم يعد مجرد مطلب، بل أصبح ضرورةً حتمية. فوجودهم يعني المزيد من الأزمات، ورحيلهم هو الفرصة الوحيدة لالتقاط الأنفاس وبداية مرحلة جديدة.


لم تكن عدن مجرد مدينة، بل كانت ملاذًا لأرواح التائهين، وأرضًا لاحتضان الأمل في عيون من ضاقت بهم الأرض. كانت مدينة بلا حدود، بلا عوائق، تمد يديها لكل من يحتاج إليها، وكانت تروي قصصًا من التضحية والصمود، تكتب حروفًا من الإنسانية بكل معنى الكلمة.

في ظل المعاناة التي كانت تُثقل كاهل كل من جاء إليها، لم تبخل عدن بشيء. كانت تعطي بلا حساب، كانت تضم الجميع في حضنها الحاني. ولا ننسى أن الكثير من الذين قدموا إليها، كانوا قد فقدوا كل شيء في مدنهم وأراضيهم. لكن عدن، بمساحاتها الصغيرة، احتضنتهم فكانت لهم وطنًا جديدًا. لم تميز بينهم، بل صنعت منهم جزءًا من تاريخها، وحين تخلى عنهم الزمان، كانت هي المكان الذي يمدهم بالحياة.


واليوم، في الوقت الذي كانت فيه عدن تُحيي الأمل في قلوبهم، نجد أن الكثير من هؤلاء الذين عاشت معهم المدينة أجمل أيامها، قد تنكروا لها. لقد نزعوا عن أنفسهم عباءة الوفاء، وتركوا عدن وحيدة في مواجهة أحزانها، وكأنها لم تكن تلك التي فتحت لهم أبوابها يومًا. هذا هو أقسى ما يمكن أن يُصاب به أي مكان، أن يُعامَل بمثل هذا الجحود من أولئك الذين احتضنتهم في أحلك الظروف.

عدن لم تكن مجرد مدينة تعيش فيها الأرواح، بل كانت قصة حب حيّة يرويها كل من عرف معنى اللجوء إلى أرض تُؤمن بالمحبة أكثر من السياسة، بالإنسانية أكثر من المصالح. وكل زائر لها يعرف كم كانت تحمل في جنباتها من التضحية، وكم كانت تشاركهم أوجاعهم وتقدم لهم عونًا لا يبخل. والآن، في وقت يحتاج فيه أبناء عدن إلى من يقف إلى جانبهم، نجد أن أولئك الذين ركنوا إليها قد سحبوا أيديهم، وتركوها تواجه مصيرها.


إن الظلم الذي لحق بهذه المدينة العريقة يتجاوز حدود السياسة، ويصل إلى أعماق إنسانيتها. فكيف لجئت عدن، مدينة السلم، أن تتحمل أعباء الأمل في زمن الانكسار؟ كيف لأرضٍ ضحت بكل ما لديها أن تُترك في خضم المعاناة دون من يواسيها؟ لم تعد عدن تلك المدينة التي يعبر عنها التواطؤ والصمت، بل أصبحت تمثل صرخةً مدوية تُطالب بحقها في الحياة، في الأمن، في الازدهار.


اليوم، لم تعد عدن بحاجة إلى من يستغلها، بل إلى من يسترد لها حقها. إنها مدينة قدمت كل شيء دون انتظار مقابل، وجاء الوقت أن تجد من يرد لها الجميل. فحان الوقت أن يتحمل أولئك الذين أُعطوا الفرصة للمضي قدمًا، ويضعوا نهايةً لهذا الفصل المؤلم.

إن رحيل هؤلاء القادة لم يعد خيارًا، بل هو ضرورة إنسانية قبل أن يكون سياسيًا. لأن رحيلهم يعني أن يعاد للمدينة جزء من كرامتها، وللأجيال القادمة فرصة للتنفس من جديد.