ما أشدّ ظُلمة الأوطان حين تنازع السياسة قبضتان، إحداهما تمسك بالسلاح، والأخرى تلوّح بالقداسة، فتضيع السياسة بين فوهة المدفع ومحراب التأويل، ويختزل الوطن إلى رقعة شطرنج لا مكان فيها إلا لملكٍ مستبد وجنودٍ مطيعين، فيما يُقصى العقل، ويُسجن الفكر، ويُجهض الحلم قبل أن يولد.
فحين يهيمن الفكر العسكري على مقاليد الحكم، تغيب المؤسسات المدنية، ويصبح الوطن معسكرًا، يدار بمنطق أوامر الأرتجال لا بعين الحكمة، ويتحول القانون إلى أداة طيّعة في يد السلطة، تُقصي من تشاء وتُبقي من يوالي، ويخنق صوت العقل تحت أقدام الجنرالات، حتى لا يبقى من السياسة إلا ظلها، ومن الدولة إلا قشرتها، فتسود الفوضى، ويغدو الوطن مجرد مسرحٍ لأوامرٍ صارمة، بلا تفكير أو تخطيط، حيث لا مجال للنقد، ولا مكان للإبداع، بل لأوامر تُنفذ، وأفواه تُخرس.
وحين ما تلتبس السلطة بعباءة الدين، وتتماهى السياسة مع العمامة، يصبح الدين مطية تُسيّرها المصالح، ويُختزل الإيمان في تأويل يخدم أصحاب النفوذ، فيُقصى المختلف تحت ذريعة الخروج عن الجماعة، ويُكفر المعارض، وتشرعن المظالم الشرعية باسم القداسة، مثالاً على ذلك، عندما تم اجتياح الجنوب عام 1994، حين استخدمت الفتاوى الدينية، أن دماء أبناء الجنوب مباحة، فكانت الدماء تُسفك بغطاء المقدس، وكانت السلطة تشرعن فتكها بألسنة من ادعوا الحديث باسم الله، فاختلط الدم بالمقدس، وتحول القتل إلى "جهاد"، والظلم إلى "تكليف شرعي".
لكن، في صفحات التاريخ، نجد لحظة مضيئة تُنير الطريق، ففي فجر "صحيفة المدينة" التي خطّها النبي محمد (ص) في المدينة المنورة، والتي كانت نواة لدولة مدنية قائمة على العدالة والمساواة، حيث تساوى المسلم واليهودي، وفتحت أبواب التعايش السلمي، ولم يكن ذلك نموذجًا دينيًا تسلطيًا، ولا عسكريًا، بل كان تأسيسًا لدولة تضم الجميع تحت لواء العدالة، وتوازن بين السلطات، حيث كانت الحقوق متساوية، لا بناءً على الهوية أو الدين، وذلك، بقيت شاهدًا على أن العدل لا يعرف انتماءً إلا للإنصاف.
في الختام، إن الدولة العادلة ليست فوهة بندقية تحكم، ولا منبرًا يحتكر الحقيقة، بل ميزانٌ يستوي عليه الجميع، وسقفٌ يحمي، وإن بناء دولة قوية عادلة، هي تلك التي لا تتحكم فيها مؤسسة واحدة، سواء كانت عسكرية أو دينية، بل هي دولة تقوم على توازن حقيقي بين السلطات، وتفصل بين الدين والسياسة، حيث يسود القانون.