آخر تحديث :الثلاثاء - 04 فبراير 2025 - 09:54 م

كتابات واقلام


ثنائية "السلطة والشعب" في العمل الوطني

الثلاثاء - 04 فبراير 2025 - الساعة 07:18 م

جسار مكاوي المحامي
بقلم: جسار مكاوي المحامي - ارشيف الكاتب


حين تُطرح معادلة "إما التضحية بالسلطة من أجل الشعب، أو التضحية بالشعب من أجل السلطة" يبدو الأمر وكأنه خيار حتمي بين مبدئية مطلقة وانتهازية سياسية، لكن الواقع أكثر تعقيدًا من هذا التصوير المزدوج، لأن العمل السياسي لا يقوم على ثنائيات حادة، بل على شبكة متداخلة من المصالح، التوازنات، الضرورات، والخيارات التكتيكية.

هل السلطة والشعب نقيضان؟

السلطة، في جوهرها، ليست مجرد امتياز، بل مسؤولية تفرض التزامات تجاه من منحوها شرعيتها. وحين تكون السلطة نابعة من مشروع وطني، تصبح أداة لتحقيق تطلعات الناس، لا عبئًا عليهم. لذا، فإن تصويرها كخصم للشعب هو تبسيط مخل، لأن أي حركة وطنية تدرك أن شرعيتها لا تأتي من ذاتها، بل من تحقيقها لطموحات من تمثلهم.
في المقابل، فإن "التضحية بالسلطة" كشعار أخلاقي قد يبدو موقفًا نبيلًا، لكنه لا يكون دائمًا الخيار الأكثر حكمة، خصوصًا إن كانت هذه السلطة هي الحامل الوحيد لمشروع سياسي يواجه خصومًا أشد تنظيمًا وقوة. التاريخ مليء بأمثلة لأنظمة أو حركات سياسية فضّلت التنحي أو التراجع بدعوى الحفاظ على الشعب، لكن النتيجة كانت أن هذا الشعب ذاته دفع ثمن الفراغ الذي خلّفه غياب قيادته.
أخيرا وليس آخرا ، هل الخيارات الوسطية بلا جدوى؟
في السياسة، هناك وهم شائع بأن المواقف إما مبدئية تمامًا أو انتهازية تمامًا، لكن الواقع أكثر تعقيدًا. الخيارات الوسطية ليست دائمًا تراجعًا، بل قد تكون استراتيجيات مدروسة تفرضها تعقيدات المشهد السياسي، حيث لا يكون التصلب خيارًا حكيمًا، ولا يكون التنازل هزيمة بالضرورة.
عبر التاريخ، لم تنتصر القضايا العادلة فقط بالتمسك الجامد بالمبادئ، بل بالقدرة على المناورة والمواءمة بين ما هو مرغوب وما هو ممكن. حتى القادة الأكثر ثورية أدركوا أن الوصول إلى الهدف النهائي قد يتطلب مراحل انتقالية أو تسويات مرحلية لا تعني التخلي عن الغاية، وإنما تأجيل بعض الاستحقاقات مقابل مكاسب استراتيجية أكبر.

ما هو الخيار الحقيقي؟

الطرح الثنائي الذي يقسم الخيارات بين "التضحية بالسلطة" أو "التضحية بالشعب" يفترض أن الأمر بيد طرف واحد فقط، بينما الحقيقة أن المشهد السياسي دائمًا ما يكون محكومًا بتداخلات معقدة تشمل الفاعلين المحليين، الإقليميين، والدوليين.
الخيار الحقيقي ليس في المفاضلة بين الشعب والسلطة، بل في كيفية إدارة السلطة لخدمة الشعب، مع إدراك أن التحديات تفرض أحيانًا خيارات صعبة، لكن ليس بالضرورة أن تكون على حساب المبدأ أو المصلحة الوطنية.
السياسة الناجحة ليست شعارات مطلقة، بل هي القدرة على الموازنة بين الثوابت والتكتيكات، بين الممكن والمطلوب، وبين المبادئ والواقع، بحيث لا يتحول التمسك بالمثاليات إلى عجز، ولا تتحول البراغماتية إلى تفريط.

الاختبار الحقيقي لأي قيادة وطنية ليس في مدى استعدادها للتضحية، بل في مدى قدرتها على تجنيب شعبها الحاجة إلى التضحية أصلاً، وذلك عبر رؤية استراتيجية تتجاوز اللحظة الراهنة نحو تحقيق الهدف بأقل كلفة وأكبر مكاسب.
كتب: جسار فاروق مكاوي.