منذ أن عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بات واضحا أن سياسته في الشرق الأوسط لن تكون استمرارا لنهج جو بايدن المتردد، بل إعادة إحياء لإستراتيجية الضغط الأقصى التي تبناها في ولايته الأولى. اليمن، الذي كان مسرحا لصراعات إقليمية معقدة، أصبح اليوم نقطة اشتباك جديدة بين واشنطن وطهران، لكن هذه المرة وفق معادلات مختلفة وأدوات أشد حسما.
إدارة ترامب تدرك أن الملف اليمني ليس مجرد صراع داخلي بين حكومة معترف بها وميليشيا انقلابية، بل هو جزء من حرب النفوذ الإيرانية في المنطقة، خاصة بعد أن تحولت المياه الإقليمية إلى ساحة تهديد مباشر للملاحة الدولية. الحوثيون، المدعومون من طهران، حاولوا فرض معادلة جديدة عبر استهداف السفن والطائرات الأميركية، ظنا منهم أن الرد سيكون في إطار الدبلوماسية الباردة التي اتبعها بايدن، لكن ترامب، وكعادته، جاء برد مختلف: قوة ساحقة بلا مواربة.
الضربات الأميركية لم تكن مجرد تحذير، بل رسالة مباشرة إلى طهران بأن دعمها للحوثيين لن يمر دون ثمن، لكن هل تكفي الضربات الجوية لحسم المعركة؟ هنا تكمن المعضلة التي لطالما وقعت فيها واشنطن في حروبها ضد الجماعات المسلحة.
تاريخ الحروب الأميركية في المنطقة يثبت أن القوة الجوية وحدها لا تحسم المعارك، في أفغانستان، قُصفت طالبان لسنوات، لكنها استعادت كابول بمجرد انسحاب القوات البرية الأميركية. وفي العراق، لم تتمكن واشنطن من القضاء على داعش إلا بعد أن وجدت حلفاء محليين على الأرض، قادرين على السيطرة بعد تنفيذ الضربات الجوية. اليمن ليس استثناءً، الحوثيون، رغم أنهم لا يمتلكون جيشا تقليديا، إلا أنهم نجحوا في بناء منظومة قتالية مرنة، تجمع بين حرب العصابات، الضربات الصاروخية، والهجمات البحرية غير المتكافئة، وهذا يعني أن القضاء عليهم يحتاج إلى أكثر من مجرد غارات جوية، يحتاج إلى قوة محلية قادرة على استثمار الضربات الأميركية لفرض سيطرة فعلية على الأرض، وهنا، يظهر المجلس الانتقالي الجنوبي باعتباره الحل الوحيد لضمان نجاح العمليات العسكرية الأميركية.
إدارة ترامب لا تنوي إرسال قوات برية أميركية إلى اليمن، وتعلم أن أي تدخل عسكري مباشر سيكون استنزافا لا مفر منه، لهذا، تحتاج واشنطن إلى حليف محلي موثوق، قادر على فرض السيطرة الميدانية بعد تنفيذ الضربات الجوية، قوات الحكومة اليمنية لم تعد خيارا موثوقا، فهي مخترقة من عناصر إخوانية مرتبطة بالتنظيم الدولي لجماعة الأخوان المسلمين المتحالفين مع إيران، وما يسمى بالجيش الوطني اليمني أُختبر في سنوات عاصفة الحزم وكان أحد مسببات عدم نجاح تحقيق أي تقدم عسكري فعلي ضد الحوثيين. على النقيض، المجلس الانتقالي الجنوبي يمتلك قوات منظمة، خبرة ميدانية، وشبكة علاقات إقليمية تجعله الشريك الأفضل في هذه الحرب.
المجلس الانتقالي لا يملك فقط قوات برية، بل لديه قوات بحرية مدربة، وهو ما يمنحه ميزة إستراتيجية في تأمين باب المندب والسواحل الجنوبية لليمن. دون قوة محلية قادرة على فرض الأمن البحري، ستبقى أي عمليات جوية أميركية مجرد حرب استنزاف بلا نتيجة، إذا أرادت واشنطن شل قدرة الحوثيين على تهديد الملاحة الدولية، فهي بحاجة إلى فرض حصار عسكري فعال عليهم، وهذا يعني منعهم من الوصول إلى موانئ الجنوب، وقطع طرق الإمداد البحرية، وهو أمر لا يمكن تحقيقه دون الانتقالي.
منذ 7 أكتوبر – تشرين الأول 2023، ارتكبت إيران سلسلة من الأخطاء الإستراتيجية التي كلفتها خسائر غير مسبوقة. أساءت تقدير أثر هجومها على إسرائيل في أبريل - نيسان 2024، مما سمح لتل أبيب بتنفيذ اختراق غير مسبوق لأجوائها، أساءت تقدير موقف حزب الله، الذي تعرض لضربات قاتلة أفقدته جزءا كبيرا من تأثيره في المعادلة، أساءت تقدير قدرة النظام السوري على الصمود، مما أدى إلى سقوطه في ديسمبر 2024، واليوم، ترتكب الخطأ نفسه في اليمن، عبر تحريك الحوثيين للرد على الضربات الأميركية، رغم أنها تدرك أن ترامب لن يتردد في تصعيد المواجهة.
إيران اليوم ليست في موقف يسمح لها بفتح حرب مباشرة مع واشنطن، فبعد أن تلقت رسالة ترامب الواضحة للعودة إلى الاتفاق النووي دون شروط، قررت أن تدفع بالحوثيين نحو التصعيد، وهو رهان خاسر قد يجرها إلى مواجهة غير محسوبة، إذا استمرت إيران في دعم الحوثيين لتهديد الملاحة الدولية، فمن المرجح أن تصعد واشنطن ضرباتها، وقد تنتقل لاستهداف منشآت عسكرية إيرانية بشكل غير مباشر. الحوثيون قد يردون بهجمات أكبر، مما سيبرر لترامب توسيع نطاق العمليات العسكرية، وإسرائيل لم تفوت الفرصة فها هي تستعيد نشاطها العسكري بتوجيه ضربات أقوى في غزة وقد يأتي الدور على جنوب لبنان، مما سيزيد الضغط على إيران.
الحرب في اليمن لا يمكن كسبها بالطائرات المسيرة أو الصواريخ فقط، واشنطن، إن أرادت فعلا إنهاء التهديد الحوثي، عليها أن تدرك أن القوة الجوية تحتاج إلى شريك محلي على الأرض، والمجلس الانتقالي الجنوبي يمتلك العقيدة الوطنية لفرض نفسه كواقع سياسي كما أن هناك قوات المقاومة الوطنية في الساحل الغربي التي يمكن الدفع بها إلى ميناء الحديدة مجددا. هؤلاء هم الشركاء الأكثر موثوقية والمدعومون من الإمارات التي ثبت صواب رؤيتها الإستراتيجية في اليمن منذ أن انقلب الحوثي على الشرعية في 2014. إدارة ترامب، التي جاءت لتعيد فرض الردع في المنطقة، تدرك أن أي إستراتيجية في اليمن لن تنجح دون الاستثمار في قوة قادرة على ترجمة الضربات الجوية إلى واقع سياسي وعسكري، والرسالة واضحة: لا ضمان لأمن البحر الأحمر بدون قوة جنوبية قادرة على فرض السيطرة.. ولا حسم ضد الحوثيين دون الانتقالي.