آخر تحديث :الأربعاء - 26 فبراير 2025 - 02:20 ص

كتابات


أوجاع وعاهات جامعة عدن

الثلاثاء - 25 فبراير 2025 - 11:25 م بتوقيت عدن

أوجاع وعاهات جامعة عدن

كتب / د. عيدروس نصر ناصر النقيب.

منذ زمن طويل توطنت لدي عادةٌ يعتبرها البعض غير حميدة، مما جعلها تثير لي الكثير من المتاعب مع أقرب الأقرباء والمعاريف من الأصدقاء والزملاء والرفاق وهي الإشفاق على المذنب بعد إدانته، ربما لأنه يتحول إلى نصع، كما يقول أبناء الأرياف، أي إنه يغدو هدفاً للتشنيع والجلد والازدراء من قبل أصحاب الحق وأصحاب الباطل على السواء، أو "اللي يسوى واللي ما يسوى" كما يقول إخوتنا المصريون.

اليوم أصدر مجلس جامعة عدن قراره بخصوص حالة سرقة رسالة الماجستير المشهودة التي غدت حديث كل الأوساط الإعلامية والأكاديمية.

وفي الحقيقة لن أقول فيها أكثر مما قاله غيري من المؤهلين وغير المؤهلين لتناول القضية بعيدا عن أنني لا أرتبط بأي علاقة مع المتهم أو الضحية، لكن ما سأتوقف عنده هو سؤال ذو صلة بالحادثة لكنه أكثر جذرية وجوهرية من مجرد سرقة رسالة ماجستير أو أطروحة دكتوراه على ما لهذه القضية من بشاعة وفضاعة لا يمكن تصورهما، وسؤالي هو: ما هي البيئة السياسية والأكاديمية والأخلاقية التي أوصلت واحدة من أعرق الجامعات على مستوى الجزيرة والخليج العربيين إلى هذا المستوى من التحلل والانحدار، بحيث صار لدينا من الطلاب والباحثيين والأساتذة من يقبل على نفسه التعاطي مع هذا النوع من التصرف المشين والمهين ليس فقط بحق نفسه ومن يشاركه هذا السلوك، بل وبحق الوسط الأكاديمي والعلمي والتربوي والأخلاقي المحيط به، علماً بأن هناك من يتحدث عن حالات مشابهة عديدة وفي كليات عديدة وجامعات عديدة في شمال اليمن والجنوب، لكنني لن اتوقف عند ما لم يُبَرهَن عليه بعد.

قد يحتاج سؤالي إلى توقف مطوَّل وموسَّع، حيث يقتضي الأمر تحليل وتفكيك المعطيات والعوامل التي تبنى عليها سياسات التعاطي مع المؤسسات العلمية والأكاديمية، لكنني أشير إلى واحدٍ من أهم الأسباب التي أوصلت جامعة محترمة مثل جامعة عدن إلى هذا المستوى من الدنو ولانحدار والهبوط المعنوي والأخلاقي والأكاديمي، وما أعنيه هنا هو سياسة القبول في الجامعة وسياسة اختيار وتعيين وترقية وتكليف الكادر في الهيئة الأكاديمية وفي المناصب والمسؤوليات القيادية الجامعية.

بعد العام ١٩٩٤م انتقلت جامعة عدن من العمل بمبدأ المفاضلة واختيار الأكفأ وصاحب التحصيل العلمي الأعلى والتجربة العملية والتطبيقية الأمثل والأفضل، إلى اختيار صاحب الانتماء الحزبي الأضمن، والأكثر ولاءً وامتداحاً للزعيم الرمز وحزبه ومقربيه ولو بقصيدة شعرية أو مداخلة مكتبة بالمدح والثناء في ندوة أو مؤتمر.

لن أسترسل كثيراً في هذه القضية رغم محوريتها ولن أضرب أمثلةً على هذه الحالات، لأن معظم المعنيين بالأمر تربطني بهم علاقة احترام ومودة، خصوصاً وقد صاروا من الماضي وهم موضوع إشفاقي وحسرتي كما قلت في مطلع حديثي.

حينما تكون معايير القبول والتعيين والترقية واختيار القيادات، هي المعايير السياسية وتحديداً الحزبية، البعيدة عن المعايير الأكاديمية والعلمية والكفاءة والخبرة والممارسة المهنية، فعلينا أن نتوقع كل المساوئِ التي تضرب المضمون الأكاديمي لوضيفة الجامعة في مقتل، وحينها تكون قضية سرقة رسالة ماجستير أو أطروحة دكتوراه عبارة عن سقطة صغيرة مقارنة مع الدمار الشامل الذي تتعرض له الجامعة، والتي تتحول من معمل لإنتاج الوعي وصناعة المعرفة وتحسين المهارات وتوطين القيم، وتنمية القدرة على الإبتكار والاختراع، إلى دكان لبيع الشهادات الجامعية بأطروحات أو حتى بدون أطروحات، ففي مخزن الجامعة وكلياتها آلاف رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه، يمكن لأي صبي مراهق أن يستنسخ إحداها لينال الدرجة العلمية التي يرغب في شراءها، وتبقى القضية موضوع السعر الذي يخضع لقانون العرض والطلب كأي سلعة في سوق البيع والشراء.

إن عاهات جامعة عدن ليست في شراء البحوث والأطروحات وتزوير الشهادات ومنح الألقاب العلمية لغير مستحقيها، بل في غياب المعايير العلمية والأكاديمية المتبعة حتى في أفقر البلدان وأقلها خبرةً في العمل الأكاديمي.

ومعالجة هذه العاهات لن يتأتى إلا من خلال أعادة توطين المعايير الأكاديمية والعلمية والمهنية البحته وإخضاع كل كادر الجامعة، بدءاً بالمدرس والمدرس المساعد، مروراً بالأساتذة ومساعديهم، وانتهاء بالبروفيسورات، بما في ذلك رؤساء الأقسام وعمداء الكليات، ورئيس الجامعة ونوابه لهذه المعايير الصارمة، فمن غير المعقول ولا حتى المثمر أكاديمياً وعلمياً أن يكون رئيس القسم أو عميد الكلية شخص يخطئ في الهجاء والإملاء (باللغة العربية) أو شخص لا يستطيع إدراك الفوارق الفردية بين تلاميذه وطلابه أو بين أبناء البيئات الاجتماعية والتضاريسية والحضارية المختلفة، أو شخص لم ينشر بحثاً عليماً تخصصياً أو حتى غير تخصصيٍ من أربع أو خمس صحفحات ثم يتولى التحكم في مصائر مئات الباحثين والبروفيسورات وآلاف الطلاب والطالبات الذين يفترض أن يكونوا هم حملة رايات التنوير والتحديث والتنمية وصناعة المستقبل المسلح بالعلم والمعرفة والمهارة والقيم المدنية والحضارية المتقدمة.