آخر تحديث :الأربعاء - 26 فبراير 2025 - 03:03 ص

كتابات واقلام


ثمن المحذقة

الأربعاء - 26 فبراير 2025 - الساعة 12:18 ص

صالح ابو عوذل
بقلم: صالح ابو عوذل - ارشيف الكاتب


سعيد (الحاذق)، رجل شارف على الثمانين من عمره، لديه عدد من الأبناء والأحفاد، يمتلك أرضًا زراعية واسعة، وكانت الأرض طيبة، تنتج الثمار والحبوب كل عام. لكن كانت هناك مشكلة تؤرق أبناء سعيد وأحفاده، أما هو، فقد كان يتعامل معها باستراتيجية (الحاذق)؛ فهو حاذق منذ ريعان شبابه، ولديه خبرة في المحذقة تمتد لأكثر من نصف قرن.
بدأت المشكلة منذ سنوات، حين ظن سعيد، بعد أن بلغ السبعين، أنه أصبح كبير القرية، وأن على الجميع احترامه، ولكن حصل العكس تمامًا.
فجيران سعيد وأبناء عمومته، في كل عام، ما إن يشارف محصول الذرة على الحصاد، حتى يطلقوا أغنامهم في الزرع فتعبث به، وكان هذا يتكرر عامًا بعد عام. دائمًا ما كان أبناء سعيد يثورون غضبًا ويتشاجرون مع المعتدين، لكن سعيد كان يذهب إليهم، (يأخذهم بالأحضان)، معتذرًا عن ردة فعل أبنائه وأحفاده. ولم يكتفِ بهذا الفعل مرة واحدة، بل ظل يكرره باستمرار.
لكن أكثر ما أغضب الأبناء والأحفاد من أفعال سعيد، أنه يوم الحصاد، كان يمنح أصحاب الغنم نصف الأعلاف (القصب)، كنوع من الاستراتيجية المحذاقية، ظنًا منه أنه بذلك يضمن أنهم في العام القادم سيربطون الأغنام، وسيمتنعون عن إطلاقها في مزرعته.
ولكن في كل مرة، يتكرر الأمر (يشارف الحصاد على القرب)، فتُطلق الأغنام في الزرع وتحصد ما استطاعت منه، فيأتي رد فعل سعيد بأن يضاعف القصب للجيران، على أمل أن يتقي شرهم في العام القادم.
شعر الأبناء والأحفاد بالملل والتذمر من أفعال سعيد، وقالوا له: "إلى هنا ويكفي! هؤلاء لا يحترمونك ولا يقدرونك، وأنت تعطيهم حقنا! لن يحدث هذا الأمر مرة أخرى!"
وفي أحد المواسم، هطلت الأمطار بغزارة على الأرض، فارتوت واستعد الجميع للزراعة، إلا أبناء سعيد وأحفاده، فقد رفضوا الذهاب. حاول معهم بشتى الطرق، لكنهم أعلنوا العصيان قائلين: "لن نذهب!"
كل صباح، كان سعيد يخرج إلى الأرض، يقف متأملًا، ينتظر أن يلين أحدهم، لكن دون جدوى. حتى فات موسم الزراعة، عندها أدرك الحاذق أن الأرض هذه المرة لن تُزرع. شعر بثقل الفكرة، كيف يمكن أن تمضي سنة كاملة دون زراعة ولا حصاد؟ ذهب إلى غرفته، ورمى بجسده المنهك على السرير وهو يفكر، حتى غلبه النعاس ونام.
في المنام، رأى رؤيا أنه يزرع ويحصد الأرض، وأن أبناء جيرانه لم يعودوا يطلقون أغنامهم على زرعه، وأن الأمور تسير وفق ما يخطط له أبناؤه. لكنه فجأة استيقظ على أصوات النساء في الدار، وهن يصرخن بأعلى الصوت:"لقد كسروا رأس حفيدك".
انتفض سعيد، وهرع نحو الجيران يعاتبهم:"لماذا فعلتم هذا؟"
لكن الرد كان قاسيًا:
"ابتعد وإلا كسرنا رأسك أنت أيضًا!"
عاد أدراجه مرة أخرى، وهو يلقي باللائمة على أبنائه وأحفاده الذين لم يزرعوا الأرض، لو أنهم فعلوا، لكان الضرر في الزرع فقط، ولكان نصف المحصول للجيران، ولما سُفكت دماء الحفيد على الأرض.

#صالح_أبوعوذل