آخر تحديث :الأحد - 02 فبراير 2025 - 11:22 م

كتابات واقلام


متى كنتِ تمرضين؟

الأحد - 02 فبراير 2025 - الساعة 08:42 م

حسين أحمد الكلدي
بقلم: حسين أحمد الكلدي - ارشيف الكاتب


عندما أتناول الكتابة عن أمي بعد رحيلها، أشعر بألمٍ عميق يهز كياني لأنه ليس مجرد حنين عابر بل حمل ثقيل أحمله في أعماقي طيلة حياتي . لأنها كانت إنسانة استثنائية. فهي لم تعرف الشكوى أو الحزن طيلة حياتها ولم تُظهر ألمها قط رغم الظروف الصعبة التي كانت تعانيها ومرت بها حتى قبل لحظات رحيلها لم تظهر أي علامات ألم التي تشعر بها رغم أن المرض كان قد أنهك جسدها. بكيت كثيرًا في صمت وأنا أعلم أن دموعي لا تفيدها بل قد تحزنها لو علمت بذلك لأنها كانت تحرص بقدر الإمكان على أن نبقى سعداء بعيدين عن الآلام والأحزان. فكانت تخفي آلامها ومرضها عنا وتداريه ولم تبح بمعاناتها إلا في اللحظات الأخيرة من حياتها، لأنها لم تستطع إخفاء الإرهاق وتلك اللحظة الفارقة هي التي لا أستطيع وصفها حتى دموع الوداع لم أرها تذرفها ولم تنبس لنا بكلمة لكني أدركت وكنت على يقين بأنها لحظة الوداع الأخير عندما اجتمع الأبناء والأحفاد حولها في منزل أخي فقد كانت تراقب الجميع بصمت والجميع يدرك أنه الوداع الأخير . اليوم وأنا في الخامسة والستين من عمري أرى أولادي وأحفادي وأتمنى أن أراهم في حالة صحية ممتازة على الدوام. هذه المشاعر أعادتني إلى ذكرى أمي تلك الإنسانة التي كانت تخفي عنا مرضها وألمها وحزنها حتى في اللحظة الأخيرة لأنني كنت أراها تعمل بنشاط دائم حتى في وقت تعبها ومرضها، فقد كانت ترعانا حتى في أسوأ حالاتها الصحية. كنت أتساءل: لماذا لم تأخذ قسطًا من الراحة؟
لماذا كانت تتحمل كل هذا الألم والتعب دون أن تشكو؟
كان الجميع يشعر بمرضها عندما تربط رأسها بالشال أو المصر النسائي الأخضر الذي تتوشح به في الأيام العادية، وكأن يومها لم يكن يختلف عن الأيام السابقة. فقد كانت تستيقظ باكرًا كالمعتاد، تجلب الماء من الغيل وتعد لنا الفطور وتتهيأ للعمل وتجهزنا للمدرسة أو العمل في الأرض أو رعاية الأغنام. كانت تحب أن ترانا في أوج قوتنا ونشاطنا عندما تودعنا للعمل أو الدراسة وبعد أن تطمئن على الجميع، تودعنا ببعض النصائح دون أن تظهر لنا أنها تشعر بالتعب أو تحتاج إلى الراحة هذه الذكريات تثير تساؤلات عميقة في نفسي عن طبيعة التضحية والحب الأمومي الذي تملكه في اعماقها كيف يمكن لإنسانة أن تتحمل كل هذا الألم دون أن تظهره لأحد؟ كيف كانت تقدم كل هذا العطاء دون أن تطلب شيئًا من المساعدة وفي المقابل تبقى صامدة؟ كانت أمي مثالًا ونموذجًا للقوة والصبر والعطاء، لكنها أيضًا كانت نموذجًا للألم الصامت الذي لا يظهر للعلن ولا للعالم من حولها. في النهاية أدركت أن أمي هي السراج المنير لنا فهي نورٌ على نور. كانت تريدنا أن نعيش بسعادة على الدوام ونكون أقوياء، كما كانت تتمنى. فهي لم تكن تقبل أن ترانا نتألم، حتى بعد أن بلغنا العمر المديد. وها نحن اليوم نعيش في عالم مختلف وبظروف مختلفة، وأتساءل:
هل كنا نستحق كل هذا العطاء؟
وهل كنا نعي حجم التضحية التي كانت تقدمها لنا ؟
هذه الأسئلة تبقى معي كجزء من حياتي، ومن ذلك الزمن والألم الذي أحمله في قلبي، ولم أستطع التخلص منه أو محوه من فكري، لأن سيرتها كانت عظيمة، وسوف تظل عظيمة ونبراسًا لنا جميعًا ولأولادنا. وأحاول أن أتعلم منها لأقدم أفضل ما أملكه لأولادي وأحفادي، كما كانت أمي، وليتعلم الجميع من سيرتها. وسوف يظل الحنين... فذلك الحنين والذكريات تأملات في ذكرى أمٍّ استثنائية.


2 / 2 / 2025