آخر تحديث :الإثنين - 10 مارس 2025 - 09:46 م

اخبار وتقارير

أيام في الإحساء
بهجة التناقض الطبيعي 5

الإثنين - 10 مارس 2025 - 07:18 م بتوقيت عدن

بهجة التناقض الطبيعي 5

مسعود عمشوش

من المؤكد أن الواحات تشكل مناظر طبيعية خلابة وسط الصحاري والهضاب الجبلية، ويزيد من جمالها التناقض الشديد بين جفاف وقسوة رمال الصحراء وصخور الهضاب وبين بهجة مياه الواحة وخضرة أشجارها. ومن الطبيعي أن يترك الانتقال من مشاهدة الصحراء والهضاب الجبلية وجفافهما إلى مشاهدة الواحة الخضراء أثرا في المسافرين، سواء أكانوا من السكان المحليين أو من الرحالة الأجانب. هذا ما نشعر به مثلا عند انتقالنا من صحراء الربع الخالي إلى واحة الإحساء في شرق المملكة العربية السعودية، أو عند هبوطنا من الجول، الذي يفصل ساحل حضرموت عن واديها، إلى مدخل وادي العين المغطى بالنخيل وحقول الذرة والخضار.

ويركز الرحالة المستكشف البريطاني عبد الله فيلبي في سرد وصوله إلى واحة الإحساء في نهاية سنة ١٩١٧ على تصوير حزام النخيل المحيط بمدينة الهفوف والقرى المجاورة لها. ويرصد الدهشة والأثر الذي تركه منظر الواحة في مرافقيه المحليين، لاسيما أولئك الذين شاهدوا واحة الإحساء لأول مرة، فقد سرد وصولهم على النحو الآتي:

"أخذنا نتقدم بعناء وبشكل متعرج بين كتل الرمال المتراكمة؛ فتارة نسير في منخفض عميق، وتارة أخرى بحافة أكمة منحدرة، وذلك إلى قبيل الساعة الرابعة بعد منتصف الليل.

وعند الساعة الثامنة صباحاً واصلنا السير بلا توقف إلى آخر أكمة في تلك الأرض الرملية المتموجة. وعندئذ ألقينا نظرة باتجاه الأسفل، فشاهدنا منظرا محببا إلى النفس بشكل بالغ: إنه منظر حزام عريض أسود من النخيل وشاهدنا خلفه الشمس أثناء غروبها.

"لا إله إلا الله ! لا إله إلا الله!"، رددها كل واحد من مرافقينا، عندما وصلنا إلى قمة الأكمة، مسلمين بوحدانية الله، خالق التناقضات كلها، وخالق الليل والنهار، وخالق البحار والأرض، وخالق الصحراء والنماء. كنا نرى أمامنا واحة الإحساء بخلفيتها القاسية، التي تتكون من صحراء شاسعة مترامية الأطراف. وشاهدنا أيضا الدخان المتصاعد من القرى المتناثرة هنا وهناك. وقد جعلنا هذا الأمر نحث الخطى كي نصل قبل حلول الليل.

وعلى الرغم من أن النخيل بدا قريبا منا، فإن حافة حزام النخيل لا تزال في الحقيقة تبعد عنا مسافة ثلاثة أميال، وهذا يعنى مسيرة ساعة كاملة بالجمال، وكانت الساعة حينئذ الخامسة مساء، وذلك قبل أن نقرر التقدم وعبور السهل الذي يتوسط هذه المنطقة. وحرفنا مسار دوابنا باتجاه جنوب الفضاء الواسع الواقع بين قرية جيشة وحزام النخيل. ولما كنا نعاني من الالتهابات والإنهاك بفعل السفر الذي استمر يوماً كاملاً فقد اضطررنا إلى ترك رجالنا ينصبون الخيام، ويساومون القرويين، الذين سرعان ما ظهروا لنا ومعهم بضاعتهم التي كانوا يعرضونها للبيع: البرسيم الحجازي لإطعام الإبل، والتمر لإطعام الرجال. وبدأنا نتجول وسط حقول النخيل؛ كان منظر قنوات الري المائية وصوت خريرها وهي تشق لنفسها طريقاً بين آبار النخيل، جميلين، وكان منظر حقول البرسيم الحجازي يسر الخاطر، وكذلك حقول القمح التي كانت على شكل مستطيلات خضراء صغيرة. كما كانت الأشجار المثمرة؛ أشجار الليمون والرمان والتين والعنب، تشرح هي الأخرى الصدر وتسر النفس…

وينساب خلال تلك الحقول (الآبار) مجرى برابار Barabar المائي الرئيس، الذي يشكل مع مجريين آخرين، هما السليسيل Sulaisil والوجاج Wajjaj، المصدر الرئيس في منظومة الري في ذلك الجزء من واحة الإحساء.

ويصل عمق حزام النخيل إلى حوالي أربعة أميال من الشرق إلى الغرب. أما من الشمال إلى الجنوب فلا يقل عمقه عن ضعف هذه المسافة. وحول هذا الحزام توجد الصحراء التي ترتفع ناحية الغرب ارتفاعًا مفاجئًا يصل إلى أربعين أو خمسين قدماً، مشكّلة بذلك هضبة منخفضة جرداء، يقع خلفها هي أيضاً حزام آخر من النخيل - واحة الأحساء الأساسية - على مستوى أعلى من المستوى الأول. ومبلغ علمي أن منطقة الإحساء تتكون من هاتين الواحتين، الواحة الشرقية والواحة الغربية، اللتين يصل فارق مستوى الارتفاع بينهما إلى أكثر من مائة قدم، كما تصل المسافة من أقصى الواحتين إلى أقصاهما عبر الهضبة التي تتوسطهما إلى حوالي ميلين. والطريق يبتعد عن الواحة الشرقية متجها إلى الهضبة عند قرية فضول Fudhul".


وعندما تسرد الرحالة البريطانية فريا ستارك هبوطها من الجول الرملي والصخري إلى وادي دوعن لا تخفي أن التناقض بين الطبيعة القاسية الجافة والطبيعة المبهجة لواحة وادي حضرموت بنخيلها ونباتها هو السبب الرئيس لدهشتها بالمنظر الذي أمامها، الذي يفوق في سحره جمال الطبيعة الخضراء في جبال الألب الأوروبية، فهي كتبت في الفصل من كتابها (البوابات الجنوبية لشبه الجزيرة العربية سنة ١٩٣٥ ):

"لو سئلت ما هو الشيء الأكثر قبولاً في الحياة، عليّ أن أقول إنه متعة التغاير والتناقض. فلا يمكن للمرء أن يتخيل أن يكون ملكاً يجلس مع قيثارة في الفردوس إلى الأبد، إذ يحتاج الشخص الطبيعي للتغيير. إنه السحر السري للواحة، وهي عادة رقعة معتدلة من خضرة جعلها فقط محيطها الرّملي ذات قيمة عالية. تنبع الينابيع المشهورة في العالم مثل : باندوسيوم Bandusium وهليكون Helicon أو تلك المياه من عين السلسبيل التي أعطاها سليمان لملكة سبأ - في أماكن مجدبة. إن جمال الفجر في الألب الذي يمتدّ بشكل جزئي في العالم النائم في الأسفل، مثل كرسي دافئ قرب النار بعد يوم مع كلاب صيد، أو غرفة مغلقة بمصاريع عندما تهتز الريح، تعتبر من هذا النوع من المتع. وكم علم الراعي الإغريقي متعة خشب الصنوبر الآمنة عندما تهيج العواصف البحر المكشوف؛ وأخبرتني امرأة أعرفها بأنها تزوجت زوجها لأنه كان دوماً يقول غير المتوقع - أعتقد أنه سبب مغامر جيد للزواج.

في هذه المتعة اللطيفة لغير المتوقع تكمن نكهة الحياة. وهي مكافأة لهؤلاء المسافرين حينما يقفون على حافة الجرف المنحدر بعد عبورهم الجول، وينظرون إلى الأسفل في وادي دوعن بحضرموت.

ففي الأسفل، يربض الوادي الذي تبلغ عرضه ألف ياردة، في نهاية منحدر يهبط ألف قدم أو ما يقاربها بجدران عمودية. وقد شيدت بلدات صغيرة على الجوانب المتكسرة الصلبة التي تتمسك بالحروف مثل أعشاش السنونو، ولا يظهرها إلا ضوء الشمس. وعندما ينظر أحد المسافرين للأسفل يجد خمساً أو ستاً منها واضحة على المنحدرات.

لقد غطت أشجار النخيل الكثيفة أسفل الوادي. وتوزعت بينها حقول مقسمة إلى مربعات محروثة من كل جانب في قاع جدول (مسيال) أبيض، تلتمع قممها هناك على نحو مظلم، مثل أفعى أو نهر، بحراشف أو موجات صغيرة تلتمع في الشمس، تستقر العين على اخضرارها المحصور، بعد أن أشبعت بأماكن مكشوفة وتتبعها إلى حيث تلتف من الظل إلى ضوء شمس بين أكتاف الجبل تحتفظ بها في الداخل وتلتف بها حول زاوية في البعيد.