آخر تحديث :السبت - 22 فبراير 2025 - 11:28 ص

كتابات


اليمن وضرورة تفكيك زيدية الشمال وإنصاف الجنوب

الإثنين - 10 فبراير 2025 - 07:40 م بتوقيت عدن

اليمن وضرورة تفكيك زيدية الشمال وإنصاف الجنوب

كتب / نشوان العثماني

(1)

في قلب المشهد اليمني المضطرب، تقف البيئة الزيدية في شمال الشمال بوصفها مركزًا تاريخيًا للسلطة، حيث تداخل السياسي بالديني في منظومة معقدة تمتد من عهد الإمامة حتى الحاضر الجمهوري. هذه الجغرافيا ليست مجرد مساحة على الخارطة، بل تابو سياسي واجتماعي لا يجرؤ كثيرون على الاقتراب منه خشية أن يُوصَموا بالمناطقية أو المذهبية أو ربما العنصرية.

النقد في هذا الاتجاه ليس تحاملاً، بل إشارة إلى خلل بنيوي في جوهر تكوين السلطة شمالًا. فمنذ نشأة الإمامة وحتى سقوطها المؤقت بفعل فترات الاحتلال التركي، ظل الحكم محصورًا في السلالة الهاشمية زيديًا، قبل أن تأتي الجمهورية لتُغيّر بعض المظاهر، لكنها لم تُغير الجوهر؛ إذ انتقلت السلطة من الهاشمية السياسية إلى الإطار الزيدي التي أحكمت قبائله وشواغله قبضتها على مفاصل الدولة، واحتكرت الحكم عبر أدوات الغلبة والقوة، بشتى الطرق، حتى بما في ذلك ما سُمي بالتعددية الحزبية، التي بقيت عاجزة عن تخيل حاكم من خارج هذا المركز.

وليس غريبًا البتة أن هذه القبائل الأكثر تمرّدًا (على غيرها)، والتي لطالما رفضت الانضباط واحترام سلطة الدولة (الفهم المتخلف والمقتصر أن تظل السلطة مغنمًا فحسب)، لم تُبدِ أي مقاومة جادة ضد عودة الإمامة في شكلها الجديد (والأسوأ) عبر الجماعة المصنفة. كيف يمكن لهذه القبائل، التي اشتهرت بالفوضوية ورفض أي سلطة فوقية، أن تخضع بهذه السهولة (حتى لا نقول كلمة أخرى) للمشروع الإمامي؟ الإجابة تكمن في غياب الحاضنة الاجتماعية للدولة المدنية، مقابل حاضنة تاريخية جاهزة لاستقبال المشروع الإمامي. (اللا يعاود دومًا الإطلالة برأسه إلا من البيئة ذاتها.)

في المقابل، تجربة مأرب وتعز (وإن بقيت منهما أجزاء)، وقبلهما الجنوب تفضح هذا الخلل –وعند هذا المستوى- بوضوح.

مأرب، رغم بعدها القبلي، صمدت وقاومت، بينما استطاعت أجزاء من تعز أن يتحرر وأن يظل مقاومًا، وبالطبع كان الجنوب قد تمكن من التحرر –بدءًا بالضالع- واستعادة زمام المبادرة، ولولاه لما كان هناك شيء اليوم بعيدًا عن الإمامة بكل صورها.

والسؤال الجوهري هنا: لماذا لم تستطع المحافظات الزيدية أن تفعل الشيء ذاته؟ السبب ببساطة هو أن هذه المحافظات تفتقر إلى حاضنة اجتماعية مؤمنة بمشروع الدولة والجمهورية، على عكس المناطق الأخرى التي وجدت في هذا المشروع ملاذًا وسندًا لمقاومة الهيمنة.

ولو لحظنا إلى ذلك جيوب المقاومة في دماج وحجور ورداع، لفهمنا الصورة أكثر (في هذا البعد المباشر)، رغم عدم إغفال الحركات الاستثنائية المعدودة جدًا التي جسدها قائد اللواء 310 ومحاولة 2 ديسمبر.


(2)

غير بعيد عن هذا السياق، لا يمكن تجاهل أن قضية الجنوب تمثل النصف الآخر من المأساة اليمنية؛ إذ تحول الجنوب، بعيد حرب 1994، إلى غنيمة حرب خاضعة بالكامل لتحالف الأوليغارشية القبلية والعسكرية الدينية السياسية المعروفة. (من أين تنحدر، هذه الرباعية؟ إياكم أن تظنوا أن هادي كان جزءًا منها!)

هذا التحالف، الذي جمع بين القبيلة ورأس المال الطفيلي، صادر الثروات، استباح الأراضي، وحوّل الجنوب إلى هامش مقهور في معادلة السلطة. الجنوب، الذي كان يومًا نموذجًا لدولة مدنية مؤسسية (رغم ما شاب التجربة)، وجد نفسه ضحية لمنظومة استبدادية جديدة، لا تختلف عن التراكم التاريخي شمالًا سوى في الواجهة والشعارات.

وأوليغارشية ما بعد 94 لم تكن مجرد امتداد للمركزية الشمالية، بل تحالفًا انتهازيًا قوامه المصلحة المشتركة في الاستحواذ على الموارد والنفوذ. هذا التحالف أفقد الجنوب الثقة في مشروع الوحدة، وأحيا –بالطبع- مطلب تقرير المصير، التي لا يمكن التعامل معه كأزمة سياسية عابرة، بل حق أصيل لشعب تعرض للإقصاء والتهميش الممنهج، وقد كان دولة كاملة معترفًا بها في كل محفل.


(3)


إذا كان تفكيك المركزية الزيدية في شمال الشمال ضرورة لإعادة الاعتبار للجمهورية، فإن إنصاف الجنوب لا يقل أهمية. فالعدالة ليست منحة مقدَّمَة، بل حق يُنتزع. الجنوب لم يعد مجرد طرف في معادلة الصراع، بل صوت محوري في أي مشروع مستقبلي. ولا يمكن بناء دولة مدنية حديثة دون الاعتراف بمظلومية الجنوب ومعالجتها جذريًا، وهي قضية سياسية بامتياز، وإلا فإن الحديث عن المساواة والمواطنة يبقى مجرد شعار أجوف. والحديث موجه إلى النخب.

التفكيك هنا لا يعني تدمير ثقافة ومطلب استعادة الدولة من الانقلاب الإمامي، بل إعادة بنائها على أسس جديدة ببناء الوعي أولًا وبهذا النوع من القراءة التي لا تغيب أبدًا عن أبسط مواطن لم يتلق تعليمًا البتة. وهي أسس تتجاوز الماضي بكل عقده، وتعيد تعريف دولة مركبة كعقد اجتماعي طوعي بين شركاء متساوين، لا كهيمنة طرف على آخر.


(4)


لا يمكن إحداث تغيير جذري في اليمن دون أن يبدأ من معالجة الخلل البنيوي في الشمال، بالتوازي مع إنصاف الجنوب ومراجعة مسار الوحدة. تفكيك الأوليغارشية المتعاقبة ضرورة قصوى لإطلاق مشروع وطني جامع يعيد الاعتبار لفكرة الدولة، دولة المواطنة والمساواة، حيث لا مكان لهيمنة سياسية أو مذهبية أو مناطقية.

والمسألة ليست في شيطنة طرف لصالح طرف آخر، بل في كشف الخلل البنيوي وإصلاحه. فالجنوب، مأرب، تعز، ولا شك تهامة، إلى جانب شمال الشمال جميعهم معنيون بصياغة هذا المستقبل، شرط الاعتراف بهذه الأخطاء والاختلالات والتخلي فعلًا عن أوهام السيطرة.

وفي الخلاصة، لا شك أن اليمنيين جميعًا بحاجة ماسة إلى عقد اجتماعي جديد ومصالحة تاريخية تعيد لهم دولتهم المنهوبة من قبل الإمامة والهيمنة التاريخية ونسختها الجديدة الأكثر بؤسًا، وتجعل من مشروع الدولة المدنية حقيقة ممكنة، لا مجرد وهم في خطابات النخبة (وبعض النخب تحاول إقناعك أن الجَمَل كنغر!) وبالطبع، دون أن يُغفل من كل هذا الحق الجنوبي في تقرير مصيره السياسي حتمًا.