في بيت صغير، لم يعد للحياة فيه طعم الفرح، تجلس أرملة الشهيد تحاول أن تكون قوية أمام أبنائها. عيناها تملؤهما الدموع، لكنها تحبسها حتى لا يشعر الصغار بأن الحياة قد قست عليهم أكثر مما يجب. كانت تعرف أن فقدان زوجها سيكون مؤلمًا، لكنها لم تكن تتخيل أن الألم سيمتد ليصبح معركة يومية مع الفقر، ومع قسوة مجتمع سريع النسيان.
أطفاله الذين كانوا يركضون نحوه عند عودته، يقفون الآن عند الباب كل مساء، ينظرون إلى الطريق كأنهم لا يزالون يأملون أن يعود. يسألون عن سبب غيابه، فتجيبهم بكلمات لا تقنع حتى قلبها. كيف تشرح لهم أن بطلهم الذي افتخروا به، لم يعد هنا ليحميهم من قسوة الحياة؟ كيف تواجه أعينهم البريئة التي تفتقد حنانه؟
في الجانب الآخر، تجلس أمه أمام هاتفه القديم، تحمله بين يديها وكأنها تنتظر أن يهتز برسالة منه. تحاول الاتصال برقمه بين الحين والآخر، رغم أنها تعرف أن لا أحد سيرد. لكنها تأمل في معجزة، كأن الزمن قد يعود إلى الوراء، كأن ابنهما الذي خرج يومًا مدافعًا عن وطنه سيعود ليطرق الباب ويقول: "لا تبكِ يا أمي، أنا هنا".
أما الأب، فالرجل الذي كان يرفع رأسه فخرًا بابنه، صار يمشي منحني الظهر، ليس فقط من ثقل العمر، ولكن من ثقل الحزن أيضًا. لم يعد يتحدث كثيرًا، فقد أدرك أن الكلمات لا تعيد الأحباب، وأن الوطن الذي أحبّه ابنه لم ينصف أسرته كما أنصفه هو بروحه.
ومع الغلاء الذي يلتهم كل شيء، ومع انعدام العدالة، تصبح الحياة أكثر قسوة على أسرة الشهيد. لا معاش يكفي، ولا مساعدة تسد الاحتياجات، ولا حتى التفاتة كريمة تواسي هذه العائلة المنكوبة. كل شيء صار معركة، حتى الحصول على لقمة العيش، وحتى تعليم الأطفال الذين كان يحلم أبوهم أن يكونوا يومًا ما أطباء أو مهندسين أو معلمين.
أسرة الشهيد ليست فقط من فقدت عائلها، بل هي من فُرض عليها أن تواجه الحياة وحيدة، بلا سند، بلا دعم حقيقي، وبلا وعد صادق بأن تضحيته لن تذهب سدى. وفي النهاية، تبقى الحقيقة المؤلمة الوطن لا يموت، لكن من يحميه هم من يدفعون الثمن، وأسرهم هم من يحملون وجع الفقد إلى الأبد.