في الذكرى 24 لرحيله:
الشاعر شائف الخالدي وحقيقة التخفي باسم القيفي
السبت - 31 ديسمبر 2022 - 10:07 ص بتوقيت عدن
علي صالح الخلاقي
تابعونا على
تابعونا على
عشية الذكرى 24 لرحيل فقيد الشعر الشعبي وعميده الشاعر شائف محمد الخالدي، الذي ترك لنا ثروة شعرية تخلده، كان لي شرف نشر سبعة دواوين منها، وما زال الكثير من مساجلاته تنتظر النشر،سأتحدث هنا وبصورة وجيزة عن قدرة شاعرنا الراحل الكبير على التخفي لسنوات في مساجلاته الشعرية مع شخصية وهمية.. وقبل ذلك أشير إلى أن تخفي الشعراء بأسماء مجهولة، لأسباب مختلفة، مسألة قديمة قدم التاريخ، وفي أدبنا العربي شواهد كثيرة على أسماء شعراء طغت أسماؤهم المستعارة على الاسم الحقيقي، مثل (الفرزدق) الذي لا يعرف كثيرون أنه الشاعر همام بن غالب بن صعصعـة التميمي. وهناك أمثلة كثيرة مثل «تأبط شرا»، و «ديك الجنّ»..الخ.
لكن شاعرنا الخالدي ابتكر شخصية وهمية ليتساجل معها باسمه، وجعلها نداً له، فيما كان ينظم قصائد البدع والجواب بنفسه، وهو أمر مبتكر لم يسبقه إليه أحد، وتلك الشخصية اسماها (أحمد علي طاهر القيفي "أبو زايد")..
انحصرت المساجلات الشعرية المثيرة والساخنة بين القيفي والخالدي خلال الأعوام (1981-1989م) فقط، وتوقفت بعد ذلك تماما، ولم يكن يتبادر إلى أذهاننا, ولو بذور الشك, أن الشاعر الكبير شائف الخالدي هو نفسه أحمد علي طاهر القيفي ولم نسمع من يقول مثل ذلك، وكان السائد حينها أن القيفي شاعر كبير وند قوي للخالدي وأن له شهرة واسعة في قيفه ومحيطها لا تقل عن شهرة الخالدي في يافع ومحيطه من مناطق الجنوب.
موت الخالدي و"وهمية" القيفي:
منذ وفاة شاعرنا شائف الخالدي, في 31ديسمبر1998م, دار لغط وجدل وأحاديث كثيرة حول حقيقة مساجلاته مع الشاعر أحمد علي طاهر القيفي (أبو زايد), بين مشكك بوجود الأخير أصلاً, وبين قائل بوجوده كشخص لكنه ليس بشاعر وليس له صلة بالمساجلات التي ابتدعها الخالدي ونسبها إليه. وزاد من هذا الاعتقاد أن عشرات الشعراء الشعبيين من مختلف المحافظات قد نظموا قصائد رثاء بوفاة الفقيد الكبير الخالدي, فيما غاب عن قائمة هؤلاء أحمد علي طاهر القيفي. لكن الفنان حسين عبدالناصر السعدي, الذي ارتبط بعلاقة فنية وصداقة شخصية حميمة مع الخالدي وغنّى له أكثر من مائة كاسيت قد فجر قنبلة مدوية عشية وفاة الخالدي حينما قال في شريط له قدم فيه بصوته بعض المراثي الشعرية في الفقيد الخالدي:"إن القيفي قد مات في نفس اليوم وفي نفس الساعة وفي نفس الدقيقة التي مات فيها الخالدي ودُفن معه في نفس القبر".
وكما هو معروف فقد حظيت مساجلات الخالدي والقيفي بانتشار واسع وتمكن الخالدي بدهائه من استدراج شعراء كثيرين إلى حلبة هذه المنازلات الشعرية، وبمرور الأيام أخذت أعداد الشعراء الشعبيين ممن دخلوا في غمار هذا النـزال الشعري تتزايد وأخذت قصائدهم تتدفق وتتلاحق من مختلف المناطق في الشمال والجنوب حاملة ردود أفعالهم وآرائهم ويتوجهون بها إلى الخالدي والقيفي معاً, وعلى مدى تلك السنوات انبرى الخالدي يرد وحيداً على كل الشعراء الشعبيين الذين دخلوا على الخط بين معارض ومؤيد ومحايد, يصارع هذا ويقارع ذاك ويحاجج ثالثاً ويفند آرائه لكل منهم على حدة, على كثرتهم, ولم يتخذ من غياب ردود خصمه المفترض القيفي حجة يفاخر بها أمام الشعراء الشعبيين لأمر يضمره ولا يريد لأحد إن يعرفه, على الأقل في حياته, وهو أن هذا الخصم الوهمي من صناعته، وأنه هو نفسه المعني بالرد عليه, ولهذا السبب كان الخالدي أحرص من غيره على إخفاء هذه الحقيقة التي لم يتنبه لها أحد طوال حياته.
أسلوب الخالدي وكلماته فيما نسب إلى القيفي:
إن الحقيقة التي أفصح عنها الفنان حسين عبدالناصر يلمسها أيضاً كل من يقرأ القصائد المنسوبة إلى القيفي قراءة تحليلية ممعنة، إذ يجد فيها نَفَسْ الخالدي ولونه الشعري وأسلوبه ومفرداته(الخالدية) التي يكررها في كثير من قصائده، وتعكس ثقافته وبيئته،ولا تُخفى على كل متابع أو مهتم بشعره، فتبدو وكأنها تصدر عن موهبة الخالدي الشعرية المألوفة، وتنساب رقراقة عذبة من ينبوع عطائه الذي مدنا بدرر ثمينة مشابهة. وعلى سبيل المقارنة، نجد الكثير من كلمات اللهجة اليافعية البحته أو العدنية أو الإنجليزية أو الهندية الشائعة الاستخدام في اللهجة المحلية منذ عهد الاستعمار، جاءت على لسان القيفي، مثال ذلك قوله:
وذاك زعلان والشاني سلي
يا بال يا دان كُلَّه مستحيل
تمسوا تغنون سَمْرَهْ ساحلي
وآخر على حرّ ناره والكليل
وللمقارنة لننظر في هذه القصيدة العاطفية التي قالها الخالدي عام 1984م ونقرأ قوله:
أرجو رجاء خاص يا هذا الجميل
غِثني بشربه من العذب الزُّلال
بطفي بها نار وجدي والكليل
قبل انتشار اللّهب والاشتعال
كما تتكرر بعض المفردات مثل "نار الكليل" في قصائد أخرى:
إِسْقْ الخالدي في إنَاك
من شُربَك ومن عَذب مَاك
بَطْفِي حَرْ نار الكَليل
خاف الله وارحم قليل
والكليل في الفصيح السيف الذي لا حدَّ له, وطرفٌ كليل إذا لم يحقق المنظور. وفي اللهجة اليافعية فإن الكليل هو شدّة الحر أو الحُمَّى الشديدة في الجسم. و"سمرة ساحلي" هي رقصة مشهورة في يافع الساحل والمناطق المجاورة لها تؤدى على إيقاع وصوت ساحلي. ولن نغادر قصيدة القيفي السابقة ونورد قوله:
سلّم له الخط واشرح ما يلي
أوَّل خبر با نبارك للزميل
بالجيب ذي جا هديه واصلي
من سوق باريس أو مصنع شفيل
قالوا دفع لك جماركها علي
واعطاك فيها سند رسمي وبيل
لندقق في الكلمات, فـ"شفيل" هي اختصار لاسم "شفيلد" وهي مدينة بريطانية معروفة, و"بيل وتُجمع أبيال" كلمة انجليزية تعني فاتورة أو سند.ونجد في قصائد الخالدي الكثير من الكلمات الانجليزية أو الهندية الشائعة الاستخدام في اللهجة المحلية منذ عهد الاستعمار, والتي نجدها في كثير من قصائد الخالدي، مثل (بوك Book, وبَرْسَل parcel بمعنى طرد أو رزُمة، بَنْقَله Bungalow طراز من المنازل, منيجر، لاَك أولَكْ وتُجمع لِكُوْك وهي كلمة هندية تدل على مائة الف, والكَرْ مائة لك وتُجمع كُرُور، وغير ذلك الكثير. وهذا يتسق مع ثقافته وبيئتة في عدن التي تأثر بها الخالدي كثيراً بحكم عمله وحياته الطويلة فيها.
ففي رده على العلفي يقول في بيت آخر:
وان عاديتني سرحتك
والله ما تحقق أمل
أو قوات با تنقذك
لو جت من مصانع شفيل
إن اللهجة اليافعية أو العدنية التي لم يتمكن الخالدي من التخلص منها, رغم محاولته ذلك, فيما نَسَبَ من قصائد إلى شخصية القيفي فخانه التوفيق في بعضها, تعد دليلاً قطعياً على أنها لهجة الخالدي ومفرداته,ونجد في ثاني قصيدة باسم القيفي ورود كلمة "أنا ويَتْهَا " كما في البيت التالي:
عاده صلح شاننا نَا ويَتْهَا
ما با نعاهد وننكث بالعهود
وهذه كلمة يافعية بحتة تسود في كثير من مناطق يافع, وتعني أنا وإياها ، فمن أين للقيفي بهذه اللهجة؟. وهناك كلمات كثيرة باللهجة اليافعية أو العدنية كمثل (يسدا له – بثاره – نشتي – بُوك- علاج المصعبي - قبص – سيّب – كولي مع الأحمدي – حُمَيلْ، كدَّيت.. الخ، فضلاً عن تفاصيل الأحداث في الشطر الجنوبي التي لا يلم بها إلاّ من كان قريباً من صنَّاعها،وكذا التعرض لأسماء وإيراد كنايات واستعارات تتكرر في كثير من أشعار الخالدي، مثل سمير وسميرة وجواهر والأم والبنت والخالة، وغير ذلك مما لا يخفى معناه لمتابعي أشعار الخالدي. ورغم كل ذلك تعالوا ندقق فقط في ثلاث كلمات وردت في ثلاثة أبيات انتقيناها من ثلاث قصائد مختلفة باسم القيفي, فكلمة " امْتَلِيْ" ترد في قافية صدر البيت التالي:
خاله معي خلت الجيب امتلي
من كل غالي لها الشكر الجزيل
وكلمة " بَدِيْ" في قافية البيت التالي في قصيدة أخرى:
كُل الحمول الثقيله حَطَّها فوق لربد
من حيث وَجْهَهْ بَدِي
وفي البيت التالي رباعي الشطرات، نجد في قافية الشطر الأول كلمة "نتلاقي" في قوله:
بعد التنقُل شي أمل نتلاقي، وَنَضْمِدْ المسئول جَنْب الشَّاقي
أو عاد كُلا في محله باقي، ذا عسكري جندي وآخر رائد
والجامع بين هذه الكلمات الثلاث أنها لهجة يافعية قحة ويجب أن تُنطق في سياق الأبيات كما وردت، لأنها عبارة عن قافية في صدر أو عجز القصيدة, ويلاحظ هنا أن الياء قد حلَّت محل الألف أو الألف الممدودة في هذه الكلمات الثلاث, مع أن الصحيح أن تنطق هكذا (امتلأ – بدا – نتلاقى), ولكن سيختل الوزن والقافية. ومعروف أن الياء تحل محل الألف في كثير من الأفعال في لهجة معظم مناطق يافع مثل قولهم: جيء في جاء, طِيْر في طار, بَدِيْ في بدا أي ظهر, تعشِّيْ في تعشَّى, أمسي في أمسى.. الخ. ولم نسمع قط بمثل هذه اللهجة في قيفة أو ما جاورها, فكيف نعلل ذلك؟!.
وبإمكاننا أن نسترسل في إيراد أدلّة على أسلوب الخالدي ومفرداته الأثيرة والمتكررة، لولا خشية الإطالة. ومن أراد الاستزادة عليه العودة إلى كتابنا(فراسة شاعر ساجل نفسه..حقيقة ما دار بين القيفي والخالدي من أشعار).
لماذا ابتكر الخالدي شخصية "القيفي الوهمية":
كان الحافز المباشر الذي هز كيان الخالدي ودفعه لابتكار هذه الأسلوب الفريد كان حادث اغتيال رجل الدولة البارز والسياسي المحنك والدبلوماسي المرموق على المستويين العربي والعالمي محمد صالح مطيع الذي كان أحد أبرز قادة الفدائيين أثناء حرب التحرير ضد الاستعمار وأشهر وزير خارجية فيما كان يعرف بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية, الذي أعتقل في أغسطس 1980م، ضمن مسلسل الصراعات على السلطة, والتي لم تتوقف منذ الاستقلال, ولفقت له تهمة الخيانة العظمى والدليل حيازته رسائل كان يرسلها إلى الرئيس سالم ربيع علي الذي أُعدم هو الآخر إثر تفجر الصراع في يونيو 1978م, وكانت تلك الرسائل تتضمن تفاصيل اتصالات مع أطراف أجنبية (المملكة العربية السعودية) كان الرئيس سالمين قد زارها, ومن الطبيعي أن يكون مطيع وهو وزير الخارجية قناة الاتصال مع تلك الأطراف لتنفيذ القضايا التي تم الاتفاق عليها في إطار تحسين العلاقات الثنائية, ورغم التهم التي وجهت له لم تتم محاكمته وأعلن قرار إعدامه في فبراير 1981م. وشكلت حادثة اغتياله صدمة غير متوقعة اهتز لها كيان النظام وأدت تداعيات هذه الحادثة وما لحقها من تصفيات لقيادات أخرى إلى تفاقم الخلاف وصولاً إلى النتائج المأساوية المدمرة يوم 13 يناير 1986م.
كان الخالدي ممن هزتهم هذه الصدمة بقوة, ليس فقط لأنه والشهيد مطيع ينتميان إلى نفس المنطقة يافع،بل ولأن علاقتهما قد نُسجت خيوطها منذ سنوات مبكرة تعود إلى ما قبل الثورة وتعززت أكثر وأكثر في مجرى الكفاح المسلح ثم بعد الاستقلال, وكان الخالدي يعرف أن الإفصاح عن موقفه جهراً سيعرضه لأمور سيئة, ولم يكن أمامه إلاَّ أن يثير الحمية القبيلة على لسان شيخ وشاعر"شمالي" من "قيفة" تحديداً, ليقول على لسانه ما لم يكن بمقدوره الحديث عنه مباشرة أو حتى التلميح إليه. وإذا كان اختيار الخالدي لشيخٍ شماليٍ أمرٌ لا يختلف عليه أحد ممن يعرفون طبيعة الصراعات والخلافات بين النظامين في الشطرين الشمالي والجنوبي حينها, فإن البعض قد يتساءل: ولكن لماذا من "قيفة" تحديداً وليس من غيرها؟!.
والجواب في تقديري أن الخالدي قد فكر ملياً في الأمر ولم يكن اختياره مصادفة, لأنه أراد أن يوظِّف الأحداث التاريخية التي جرت بين قيفة ويافع – الموسطة, في مطلع القرن العشرين, ليذكر أبناء قومه بمآثر أسلافهم ومواقفهم المشرفة, التي أملتها عليهم التقاليد والأعراف القبلية حينها, في نجدة المظلوم وإغاثته والوقوف إلى جانبه.
وانطلاقاً من خلفية تلك الأحداث التاريخية وما تلاها من صراعات وحروب مؤسفة بين الشطرين, أخذ الخالدي يخاطب أبناء يافع, وفي مقدمتهم من كان منهم في قمة السلطة, من خلال تذكيرهم بماضيهم المجيد ومقارنته بحالتهم اليوم التي بدوا فيها عاجزين عن فعل شيء إزاء اغتيال "الوعل ذي القرون الملوية" والوعل كناية عن الشهيد مطيع, ومع ذلك لم يجرؤ أحد على الاستنكار أو إبداء الأسف أو حتى الحداد في مسقط رأسه على أقل تقدير. فكان اللجوء إلى هذا التأنيب والاستفزاز للمشاعر المجروحة والقلوب المكلومة على لسان القيفي وبالمداد(الحبر) الأحمر,الذي يذكر بالدم المراق قبل أن يجف, وهو ما يتضح من قوله في أول قصيدة بعد قرابة شهرين على اغتيال مطيع:
يَهْوَا على يافع رجاجيل السّلب
ضاعت جراملهم وضاعين الكناد
من قال مكريب العدا يافع كذب
يافع طفي مكريبها واصبح رماد
تاريخ يافع ضاع وأهله ضايعه
والآن تاريخه مُلّطخ بالسّواد
راح الوعَل مولى القرون الملويه
ولا تأسفتوا ولا اعلنتوا حِداد
كان الخالدي يعرف أن شخصيات قيادية على مستوى السلطة كانت حينها ضد إعدام مطيع, لكنها لم تجاهر بموقفها أو تفعل شيئاً, ربما خوفاً من نفس المصير, وهو ما عرضها فيما بعد لسهام الخالدي النقدية عشية انعقاد الكونفرس الحزبي العام للحزب الاشتراكي اليمني عام 1987م حيث وجه قصيدة لقادة الحزب منتقداً سكوتهم على إعدام مطيع وغيره وكأنهم كانوا حينها "عَدَمْ" أو"شبه أصنام" أمام من أغتال مطيع كما يقول:
قضى عليهم بغفله ابرهه لشرم
وبعض من وقعوا له في قلم وابهام
وكأنكم حين ذا يُقتل وذا يُعدم
كنتم عَدَمْ لم تكونوا غير شبه أصنام
من غيركم طلّع المجرم على السلِّم
راعي غنم كان وأصبح حاكم الحكام
شرَّع بسرعه ومن حينه طغى واجرم
واعدم علينا مطيع الفارس الضرغام
وبعد أن لقيت أولى المساجلات ذلك القبول الواسع والإعجاب الكبير من قبل الجمهور انساق الخالدي وراء هذا الأسلوب الذي ابتدعه, فأعجب به وظل يتحكم بموضوعاته بمحض إرادته, فجعل من تلك المساجلات قناة لكشف مثالب وعورات النظامين في الجنوب والشمال على لسانه ولسان خصمه المفترض القيفي والتحريض والحث على تحقيق الوحدة,التي كانت الموضوع الأكثر حضوراً في كل المساجلات.
ويلاحظ القارئ من مضامين القصائد طابعها النقدي حيث تعرضت لمظاهر متنوعة من عيوب وسلبيات النظامين والصراعات الداخلية المتكررة التي قضت على رموز الثورة ورجالات الدولة الواحد بعد الآخر، ارتهان النظامين للقوى الإقليمية والدولية، هروب المعارضين للنظام, الانغلاق الاقتصادي والحث على الانفتاح للخروج من الضائقة الاقتصادية, وغير ذلك الكثير مما سيلمسه القارئ أثناء إبحاره في هذا السفر الشعري الممتع. حتى أنه تمكن من طرح آراءه الخاصة وهي آراء يشاطره فيها كثيرون كان فيها لسان حالهم خاصة ما يتعلق منها بالهم السياسي والاجتماعي العام،كما طرح بعض قضاياه الخاصة من خلال إثارتها على لسان القيفي منتقداً جحود ونكران القيادات له كشاعر ومناضل منذ فجر الثورة دون أن يلقى عناية تذكر.
ومع اقتراب الوحدة طرح السؤال الذي كان يتداول حينها على ألسنة الكثيرين عمن سيكون القائد عند تحقيق الوحدة, وكأن اختيار القائد هو الأمر المهم الذي ينبغي أن يسبق الوحدة؟! يقول على لسان القيفي:
وفصل ثاني كيف يا بُو مخلد، لو تمت الوحده أريد أتأكَّد
وضّح وقُل لي في جوابك والرَّد، من ذي مرادك با يكون القائد
هل با يظل الحزب عُمْلَهْ صعبه، أو مجلس الشورى يمثل شعبه
من تنتخب قل لي ومن بتحبَّه، عليك من لثنين حدّد واحد
وفي ردِّه يؤكد الخالدي أن أحداً مهما كان لن يقف عائقاً أمام إرادة الشعب في الوحدة التي آن أوانها, وبتحقيق هذا الهدف العظيم ينبغي أن نفرح ونهنئ شعبنا وقياداته, أما من يكون القائد فأمر ثانوي وغير ذي أهمية مقارنه بالهدف الأهم المتمثل بالوحدة, ولن يكون هذا الأمر مثار خلاف, لأن الشعب فقط هو الذي من حقه أن يختار قيادته بمحض إرادته, ولن نقرر هذا الأمر بالقصائد والأشعار,يقول الخالدي:
باقول رأيي حسب أشوف بالعين، حان اللّقاء والوصل بين الأثنين
ما شَفِّنَا إلاَّ جَمْع شمل شطرين، نصبح يمن واحد وشعب واحد
وفصل آخر خُذ جوابه منّي، لو تمت الوحده وجب نهنّي
الشعب والقاده وبا نتمني، الملتقى أوّل بسيط القائد
لِنْ قصدنا أول تتم الوحده، بالحُب والأخلاص والمودّه
لو قادة الشطرين مُستعدّه، ما با يظلي رأينا مُتباعد
الشعب هو ذي حَقّ له أن يختار، قائد ممثل له وقاده أخيار
لا نَا ولا انته بالقُصُدْ والأشْعَار، نُقِيْم واحد أو نُسَقِّط واحد
ويبرز أيضاً سؤال هام عن سر توقف هذه المساجلات الشعرية مع الخالدي في عام 1989م. والإجابة على هذا السؤال لا تحتاج إلى اجتهادات وتأويلات, بل يمكن أن نقرأها بوضوح في جواب الخالدي على القيفي في مارس 1988م, فحينها كانت تتسارع الخطى الحثيثة نحو الوحدة وهي, كما يعترف الخالدي, الهدف الذي سيضع نهاية لحالة المد والجزر والصراع والعناد بين الشاعرين, وهذا العناد والمد والجزر هو إسقاط رمز به إلى حالة الخلاف والصراع بين الشطرين الذي ستضع الوحدة نهاية طبيعية له:
ما ودَّنَا إنَّ شمل الشعب يبقى مُبَدّد
أو غير متوَحِّدي
ما نفرح الاّ متى الشعب اليماني توحد
هذا هو مقصدي
من أجل أنا وأنت لا نبقى في الجزر والمد
ضدَّين نتعاندي
وهكذا جاء العام 1989م مبشراً بالوحدة الضيزى ، خاصة بعد اتفاق عدن الموقع في 30نوفمبر من نفس العام, فرأى الخالدي أن يسكت صوت الخصام والعناد ويضع حداً للجدل الساخن الذي افتعله بعبقريته مع شخصية القيفي, لأن الحالة السياسية والنفسية حينها لم تعد تقبل مثل هذا الخصام وتحتاج أكثر للوئام والتفاهم "في ظل وحدة شامخة وطيدة" كما كان يأمل ويتمنى. وصمت القيفي ومات كشاعر منذ ذلك الحين, كما أراد الخالدي ذلك.
لكن الخالدي لم يصمت بعد غدر الشركاء وقتلهم للوحدة التي تغنها بها كثيراً، وكان من أوائل الشعراء الذين رفضوا وقاوموا نتائج تلك الحرب الظالمة، واعتبرها احتلالاً، ومثلما رحل الاحتلال الأول، ويقصد به الاستعمار البريطاني، فأن الآخر، ويقصد به الاحتلال اليمني سيرحل، يقول في زوامله عام 94م:
إيَّاك يا شعب الجنوب أن ترتبش
شُفها مراحل مثلما عابر سبيل
ما حَدْ بها دائم على حِيْلِهْ وغَشْ
لَوَّل رحل وآخر مُراعي للرحيل
ختاماً.. لا نملك إلاَّ أن نبدي إعجابنا بالشاعر الكبير شائف محمد الخالدي الذي جعلنا مشدودين إلى هذه الروائع من المساجلات التي أبدعتها قريحته مع شخصية " شاعر وهمي" اصطنعه من وحي خياله ليقول على لسانه ما يريد قوله ويوصل رسالته على لسان غيره،دون أن يعرف أحد هذا السر أو يتنبه له، فانتشرت أشعاره على نطاق واسع في الشطرين متجاوزة الحدود الوهمية ونقاط التفتيش، دون استئذان، وبدهائه هذا جَنَّب نفسه المساءلة وأبعدها عن الشبهات التي تعرضه لمضايقات هو في غنى عنها. ويسجل له أنه صاحب هذه الطريقة الذكية وغير المسبوقة في الأدب الشعبي اليمني، التي تنم عن فراسة وعبقرية مبتكرها، كشاعر كبير لم تعييه الحيلة عن الذهاب إلى أن يبدع روائع باسم غيره ويرد عليها، لأن المهم بالنسبة له كان إيصال الفكرة وتأدية الرسالة كشاعر صاحب موقف.