آخر تحديث :السبت - 22 فبراير 2025 - 11:26 ص

ثقافة وأدب


طرفة عين

الجمعة - 18 نوفمبر 2022 - 06:58 م بتوقيت عدن

طرفة عين

سالم الفراص

ـ 1 ـ
كان صباحاً غائماً بديع الشروق لطيف النسمات بدأ وهو يتهادى غامراً مدارج الرؤية بتلاوين شفافة تموشجت بإيقاعات ليلة مقمرة ساكنة، تأبت الانسحاب دون أن تبقي ما يدل عليها على وجه ذلك الصباح دامغة سحنته بخيوط حريرية متداخلة متلازمة متماوجة تعرج بنظرات رائيها بتحنان شغوف، إلى عوالم مكتظة مشتهاة، تتغشاك من بين تضاعيفها أياد ماسحة عن كاهلك آثار مشاق الحياة وهمومها.
لم تكن هناك مسافة تستدعي الأقدام لتقطعها، بل وهاد تجتلي بواطنها الروح، وتمخر عباب افنانها أجنحة النفس تندفع بخفة قاطعة المسافات بلا حاجة لخطوات تمدها ولا فجوات نتحاشى الوقوع فيها.

ـ2 ـ
كنت في مأمن من مخاوف الوقت وملاحقة الزمن كل الاتجاهات مفتوحة، سهلة وميسورة وغير مشروط اجتيازها بجهد يذكر.
انطوت المسافة بل تلاشت بغمضة عين أو ارتداد طرفها بين مسكني ومعابر مرور باصات الأجرة لم اشعر بحاجة لرفع يدي ورسم الإشارة الدالة إلى مكان رغبتي في التوجه، فقد كنت مغموراً في ارتحال لم ينتهِ ولا أريد له أن ينتهي لولا وقوفي في المكان الخطأ الذي يشفع لي وقوفي فيه تجنب حاجة سائقي باصات الأجرة لراكب، كما لم يقِني عدم رفع يدي تكرم فضول سائقي الباصات خور ـ خور لا إرادياً استجبت لنداء شاب يجلس خلف مقود الباص فأجبت:
ـ نعم معك
كان صمت السائق وخلو الباص من الركاب معيناً على مواصلة خلوتي بتباشير ذلك الصباح ولم انتبه إلا بعد أن فارقنا التواهي وقاربنا من إكمال شارع المعلا الرئيسي، كان ما يزال الباص فارغاً إلا مني، لذا بدأت انشغل باللحظة التي يتوقف فيها صاحب الباص ويطلب ترجلي متحججاً والحق معه بأنه لا يستطيع إكمال المشوار براكب واحد، لكن بدأ انشغالي ذاك يخفت مع تجاوزنا لشارع المعلا، مكتفياً بالنظر إلى وجه السائق الذي بدا لي في كامل هدوئه وليس من شيء يدل على ضجره.

ـ 3 ـ
وقبل أن نجتاز جولة هائل استوقفتنا إشارة من فتاة هي ثالثة اثنين بجانبها، شعرت بسرور وطمأنينة من هذا المستجد وكأنني أنا صاحب الباص الذي لم يضن عليه القدر بحصوله على ركاب إضافيين في اللحظة الأخيرة.
لم المس تغيراً في حال صاحب الباص فقد بدا راضياً كما كان منذ انطلاقنا وحيدين من التواهي، عندها حاولت بقدر ما استطيع العودة إلى احضان ذلك الصباح الاستثنائي.

ـ 4 ـ
دخلنا منطقة (الشابات) بخورمكسر، عندها صدر صوت خفيف من الخلف طالباً من السائق التوقف، توقف الباص وترجلت الفتيات الثلاث وغادرن مبتعدات دون أن يدفعن مقابل نقلهن من المعلا إلى خورمكسر، عندها رأيت ما لم اتوقع رؤيته من حنق في وجه السائق الذي ترجل عن الباص وأمسك بإحدى تلك الفتيات الثلات:
ـ أين الأجرة؟
ـ وبصوت خفيض أجابته:
ـ ما فيش معانا فلوس.
أمسك السائق الفتاة من يدها حتى لا تلحق بزميلتيها اللتين سارعتا في الابتعاد، تحلق نفر من الناس القريبين وراحوا يستمعون مستغربين مما يحصل وفي حركة غير متوقعة من الفتاة المحاصرة التي فتحت حقيبة نسوية كانت بيدها وفتحتها مفرغة ما فيها على الأرض أمام الناس.
كان كل ما وقع من الحقيبة مرآة وقلم حواجب وورقة وقلم، ووقفت صامتة وكأنها تنتظر نتائج ما قامت به.
افلت السائق الفتاة وعاد منكسراً إلى باصه وقبل أن يعيد تشغيله والانطلاق لحقه أحد من شهد الحادث محاولاً دفع قيمة أجرة الفتيات الثلاث، رفض السائق وبشدة أخذ الأجرة وانطلق ليوصلني.

ـ 5 ـ
انتهت رحلتي تلك، محاولاً تذكر ما كان عليه ذلك الصباح إلا أنني لم استطع، كان كل شيء قد تبدل فجأة .. الشمس حارقة والطريق شاق ومرهق، والمسافات من حولي صعبة الاجتياز.
تحاملت على نفسي وعدت منكسراً حاسر الروح من حيث أتيت، لاعناً حظي العاثر.