آخر تحديث :الجمعة - 21 فبراير 2025 - 08:49 م

كتابات واقلام


الميراث: التركة الثقيلة

الخميس - 20 فبراير 2025 - الساعة 08:29 م

جسار مكاوي المحامي
بقلم: جسار مكاوي المحامي - ارشيف الكاتب


جسار فاروق مكاوي

عند سماع كلمة "الميراث"، يتبادر إلى الذهن مباشرة تلك العقارات والأموال المنقولة وغير المنقولة التي يتركها المورّث لورثته بعد وفاته، وفقًا لأحكام الشرع الإسلامي وما يقتضيه تقسيم الأنصبة والفروض. وفي بعض الحالات النادرة، يتم توزيع الميراث في حياة المورث نفسه، إما برضاه أو استجابةً لضرورات شرعية واجتماعية. لكن هناك نوعًا آخر من الميراث، أكثر تعقيدًا وأثقل وطأة، ذلك الذي تخلفه الأنظمة السياسية البائدة أو التي انهارت بفعل الثورات والانتفاضات والصراعات السياسية.

إرث الأنظمة المتداعية
حين تسقط الأنظمة، لا تموت مخلفاتها بسقوطها، بل تترك وراءها تركة ثقيلة من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تتوارثها الأجيال وتتحمل تبعاتها المجتمعات والدول. لقد رأينا كيف تحوّلت بعض البلدان، التي شهدت ثورات الربيع العربي أو غيرها من الانتفاضات المسلحة، إلى ساحات فوضى واحتراب داخلي، حيث تتنازع القوى المختلفة على إرث الأنظمة السابقة، سواء كان ذلك على شكل مؤسسات الدولة، أو الثروات الوطنية، أو حتى على الأيديولوجيات السياسية والعسكرية.
في كثير من الحالات، يخلّف النظام الساقط بنية سياسية واجتماعية منهارة، وأجهزة دولة مخترقة أو مفككة، وأجيالًا تربت على فكر سلطوي معين، مما يجعل الانتقال إلى مرحلة جديدة أكثر تعقيدًا مما يتوقعه المناضلون من أجل التغيير. وهكذا، لا يكون الميراث مجرد ممتلكات أو قوانين أو مؤسسات، بل يمتد ليشمل ثقافة سياسية واجتماعية تعيق أي محاولة حقيقية للإصلاح أو البناء.

الحروب والصراعات: ميراثٌ من الدمار
في بعض الدول، لم تكن عملية إسقاط الأنظمة مجرد فعل سياسي سلمي، بل تحولت إلى صراعات مسلحة طاحنة، حيث دخلت البلاد في حروب أهلية أو انقسامات مناطقية وقبلية، زادت من تعقيد المشهد. هذه الحروب أفرزت ميليشيات وجماعات متطرفة، بعضها تأسس على أنقاض جيوش النظام السابق، وبعضها وُلد نتيجة الفراغ الأمني والسلطوي الذي خلّفه السقوط المفاجئ للدولة.
ولم تتوقف المشكلة عند هذا الحد، بل إن العديد من القوى الإقليمية والدولية دخلت على خط الصراعات، فتشكلت تحالفات وتحالفات مضادة، وصارت الدول ساحة لتصفية الحسابات، ما جعل فكرة استعادة الاستقرار أشبه بحلم بعيد المنال. وهكذا، أصبح ميراث الأنظمة السابقة عبئًا ليس فقط على الحكومات الجديدة، بل على الأجيال القادمة التي وجدت نفسها عالقة في دوامة لا نهاية لها من الصراعات.

الإصلاح الصعب والفرص الضائعة
المشكلة الكبرى أن محاولات إصلاح ما أفسدته الأنظمة السابقة تواجه دائمًا مقاومة، إما من القوى المستفيدة من إرث الماضي، أو من شعوب أنهكتها الأزمات وفقدت الثقة بأي عملية تغيير. في كثير من الدول، حاولت الحكومات الجديدة تطبيق إصلاحات اقتصادية أو سياسية، لكنها اصطدمت ببقايا النظام السابق، الذين ما زالوا يتحكمون في مؤسسات الدولة العميقة، أو بعقلية الجماهير التي اعتادت على نمط معين من الحكم ولم تستوعب بعد التغيير.
والأسوأ من ذلك أن بعض النخب السياسية الجديدة التي وصلت إلى السلطة بعد الثورات، كررت أخطاء الماضي، فاستنسخت نفس الممارسات الاستبدادية والفساد الذي كانت تنتقده، ما جعلها جزءًا من المشكلة بدلًا من أن تكون الحل.

نحو تجاوز الميراث الثقيل
ليس من السهل التخلص من إرث الأنظمة الساقطة، لكنه ليس مستحيلًا. التغيير الحقيقي لا يكون فقط بإسقاط الحكام أو تبديل الوجوه، بل بإعادة بناء المؤسسات على أسس صحيحة، وتحقيق عدالة انتقالية تضمن عدم تكرار الماضي، وخلق وعي سياسي واجتماعي جديد يرفض الاستبداد بكل أشكاله.

إن ميراث الأنظمة البائدة يمكن أن يكون لعنة تطارد الدول لعقود، لكنه يمكن أن يكون أيضًا درسًا يُستفاد منه. التحدي الحقيقي ليس فقط في التخلص من هذا الإرث، بل في كيفية تحويله إلى فرصة لبناء مستقبل مختلف، حيث يكون الحكم قائمًا على أسس العدالة والمساواة والشفافية، وليس على حسابات السلطة والنفوذ.
في النهاية، الميراث الثقيل الذي تتركه الأنظمة الساقطة ليس مجرد وثائق وأموال، بل هو منظومة كاملة من الأفكار والعادات والسياسات التي إما أن تُعاد هيكلتها بعقلانية، أو تظل كعبء يمنع أي أمة من النهوض.