البشر مقابل الإسمنت: مصنع الوطنية في لحج يحصد الأرواح بلا رقيب
بين الألم والمعاناة، ترتفع صراخات الطفلة شيماء فؤاد أحمد البالغة من العمر (4) سنوات من قرية "عيانة" بمديرية "المسيمير" بمحافظة لحج جنوب اليمن. تتردد شيماء على مركز الأورام السرطانية بمدينة عدن بشكل مستمر نتيجة إصاباتها بورم سرطاني أسفل عمودها الفقري، ظهر في العام 2020 وكان عمرها سنة حينها.
قال والد الطفلة شيماء لمركز سوث24: "عندما أصيبت ابنتي بهذا المرض، ذهبت بها إلى المشفى بعد إجراء الفحوصات اللازمة. تم إجراء عملية لها لاستئصال الورم بداية شهر أغسطس عام 2023. اعتقدنا أننا تخلصنا من الورم، ولكن في نهاية ذات الشهر عاد الورم من جديد للظهور. أجريت لها عملية أخرى ولكن دون جدوى".
بحسب الملف الطبي الذي حصلنا عليه خلال عملنا في هذا التحقيق، فإن شيماء مصابة بورم خبيث. وهي تتلقى كل 21 يومًا، جلسة كيماوية في مركز الأورام السرطانية بمستشفى الصداقة الطبي بعدن. هذه الجلسات مكلفة ماديًا بالنسبة لأسرتها.
ورقة تشخيص إصابة الطفلة شيماء فؤاد أحمد بالسرطان، مستشفى عدن الألماني الدولي
لدى والد شيماء قناعة تامة أن مرض ابنته سببه الأدخنة والانبعاثات المتصاعدة من محطة الفحم الحجري، التابعة للشركة الوطنية لمصنع الأسمنت المملوك لمجموعة هائل سعيد انعم التجارية المعروفة كأكبر مجموعة في البلاد.
ويقع المصنع في وادي "صاعم"، بين مديرية المسيمير ومديرية الملاح – بمحافظة لحج.
موقع مصنع أسمنت الوطنية في محافظة لحج (جوجل إيرث - بواسطة مركز سوث24)
لكن شيماء ليست هي وحدها المصابة بالورم الخبيث، ووالدها ليس وحده المقتنع بوقوف مصنع شركة الوطنية للأسمنت، الذي تأسس في لحج بين 2006 - 2008، خلف ما أصاب أبنته.
أمراض مستشرية
بحسب تقرير حصلنا عليه خلال العمل على التحقيق، أعدته لجنة مجتمعية من أبناء مديرية المسيمير برئاسة محسن محمد الربيح، وهو مدرس متقاعد وعاقل حارة [مسؤول مجتمعي]، تم رصد وتوثيق 159 ضحية بين وفيات وإصابة، في صفوف المواطنين بمديرية المسيمير بمحافظة لحج خلال العام 2021.
بحسب التقرير، تم تسجيل 52 حالة وفاة في صفوف المصابين، فيما 107 حالة لا تزال تعاني حتى اللحظة.
جانب من الأسماء التي وردت في تقارير اللجنة التي حصل عليها مركز سوث24
تنوعت الأمراض والعلل التي أصيب بها العدد المذكور بحسب التقرير. شمل ذلك أمراض الربو، الجهاز التنفسي، سرطانات الدم والغدد، الشلل الرخوي، ضمور وفشل الكلى، التهاب وتليف الكبد، أمراض القلب، تكسرات الدم، التشوهات الخلقية، الإجهاض للأجنة. حدد التقرير السبب بوضوح في أدخنة وانبعاثات محطة الفحم الحجري التابعة لمصنع الأسمنت وشركة الوطنية.
ولا تقتصر هذه الكارثة الإنسانية والصحية على مديرية المسيمير وحدها، فمديرية الملاح المجاورة تكابد المأساة نفسها.
على مدى أكثر من خمسة أشهر بين نوفمبر – مارس 2025، عمل الصحفي مختار شعتل بمساعدة الصحفية فاطمة العبادي على توثيق مجموعة من حالات الإصابة المرضية ذات الصلة في صفوف السكان بمديريتي الملاح والمسيمير. تم توثيق 26 حالة خلال العمل الميداني، والالتقاء بهم جميعًا. أكد كثير من الأهالي أن أفراد أسرهم تعرضوا لهذه الأمراض بسبب الغازات المنبعثة من محطة الفحم الحجري التابعة لشركة الوطنية للأسمنت.
الدكتور باسم مصلح محمد، وهو مساعد طبي في الوحدة الصحية بمديرية الملاح، قال لمركز سوث24 إن الوحدة تستقبل ما بين 40 إلى 50 حالة مرضية في اليوم الواحد، تتنوع إصاباتها بين أمراض الجهاز التنفسي، وأمراض الكبد وأمراض أخرى. من بين هذه العدد، أشار المساعد الطبي إلى أنه في بعض الأحيان تكون هناك أكثر من 15 حالة مصابة بالربو يوميًا.
ويقول د. باسم إن من أبرز الأسباب لانتشار تلك الأمراض وجود محطة الفحم الحجري في المنطقة.
بحسب تقارير مكتب الصحة في مديرية الملاح [1]، بين عامي (2010 -2018)، تم توثيق أكثر من 29000 حالة إصابة بأمراض الجهاز التنفسي، بينما توفي 37 شخصا من سكان المديرية بسبب أمراض السرطان خلال ذات الفترة. وفقًا للتقارير أيضًا، تزايدت بشكل ملحوظ أمراض الرئة والمعدة والكبد لدى سكان المنطقة.
وبحسب دراسة بحثية محكمة (2021) أعدها الباحث في جامعة عدن عنتر الشعيبي، بعنوان "التقييم البيئي لمصنع إسمنت الوطنية "، كجزء من متطلبات رسالة الماجستير، فإن مصنع الأسمنت ومحطة الفحم التابعة له في محافظة لحج، تسببت بشكل مباشر بإصابة أهالي مديريتي المسيمير والملاح بالعديد من الأمراض الخطيرة.
غلاف الدراسة
وطبقًا لعينة الدراسة المكونة من 63 فردًا، يُعد الأطفال هم أكثر الفئات تضرراً بنسبة وصلت إلى 33% من مجمل الفئات. يليها فئة النساء (28%)، وكبار السن (28%). بينما كانت الفئة الأقل تعرضًا لهذه الأمراض هم الشباب بنسبة (11%).
أضرار بيئية
طالت أضرار محطة الفحم الحجري لمصنع أسمنت الوطنية البشر والشجر والماشية معًا كما يؤكد عبد الحبيب محمود صالح، مدير مكتب الزراعة والري بمديرية المسيمير بمحافظة لحج.
وقال المسؤول المحلي لمركز سوث24 إنه خلال السنوات الماضية، "حدث تراجع كبير في الإنتاج الزراعي في المديرية بنسبة 60%، مقارنة بالسنوات التي سبقت وجود مصنع الأسمنت ومحطة الفحم الحجري". مشيرًا إلى أن هذا الانحسار في الإنتاج سببه الإصابة برماد وغبار وغازات محطة الفحم الحجري.
بدوره، أوضح عبدالله علي سالم الدوس، وهو عضو المجلس المحلي لمنطقة عيانة - قرية "الظفير" بمديرية المسمير، الخسائر الكبيرة للمزارعين في المنطقة. وقال لمركز سوث24: "منذ إنشاء محطة الفحم الحجري، فقدنا زراعتنا ومعيشتنا وأصبحت أراضينا بور [ميتة غير صالحة للزراعة]".
بسبب مصنع أسمنت الوطنية، تداعيات خطيرة على القطاع الزراعي والحيواني في محافظة لحج
ولفت إلى أنه "حتى الأمطار باتت مصدر قلق للمواطنين في مديريتي المسيمير والملاح، كونها تتساقط كأمطار حمضية تؤدي إلى تلف المحاصيل الزراعية وخلايا النحل".
خلال النزولات الميدانية، شكى كثير من الأهالي والمواطنين فقدانهم للأبقار والأغنام والدواجن وخلايا النحل بشكل مستمر. اتهموا مصنع الوطنية للأسمنت بأنه السبب خلف ذلك نتيجة محطة الفحم الحجري التي يعمل بها.
وفقًا لمدير مكتب الزراعة والري في مديرية المسيمير بمحافظة لحج، عبد الحبيب محمود صالح، فإنه خلال الأشهر الأخيرة رصدت فرق الحصر التابعة للمكتب نفوق وإصابة ما بين "1500 - 2000 " رأس من الأغنام. وأرجع المسؤول سبب ذلك لما وصفه بـ "التأثير المناخي وانبعاثات الأدخنة".
المواطن عبدالله محسن علي سعيد من أبناء مديرية الملاح، قال لمركز سوث24 إنه أحد الضحايا المتضررين من هذه الكارثة البيئية. مضيفًا: " كان معي 90 عود نحل [خلية نحل]، ونتيجة التلوث المنبعث من محطة الفحم الحجري لمصنع الأسمنت، لم يتبق لي سوى 40 عودًا غير قادرة على الإنتاج".
وأشار إلى أنه فقد أيضًا 30 من أصل 40 من الأغنام كانت ضمن أملاكه.
تلوث بيئي
وفقًا لـ (ناشيونال جيوجرافيك)[2]، فإن الفحم عبارة عن صخور رسوبية سوداء أو بنية اللون يمكن حرقها للحصول على الوقود واستخدامها لتوليد الكهرباء. يتكون في الغالب من الكربون والهيدروكربونات، والتي تحتوي على طاقة يمكن إطلاقها من خلال الاحتراق (الحرق).
وطبقًا لموقع Sciencing ،[3] تحتوي جميع أنواع الوقود الأحفوري، بما فيها الفحم الحجري، على كميات كبيرة من الكربون. الملوثات الأولية المنبعثة من حرق الوقود الأحفوري هي أول أكسيد الكربون (CO) وثاني أكسيد الكربون (CO2)، ثاني أكسيد الكبريت (SO2)، أكاسيد النيتروجين من الشكل الكيميائي NOx (في المقام الأول ثاني أكسيد النيتروجين، أو أكسيد النيتريك (NO)، هيدروكربونات مختلفة (ميثان ، CH4، كونها أحد الأمثلة على ذلك) والمواد التي يطلق عليها مجتمعة المركبات العضوية المتطايرة، أو المركبات العضوية المتطايرة. بعضها خطير في أشكالها الأصلية. البعض الآخر ضار بشكل خاص فقط بعد أن تتحد مع كواشف حميدة أخرى في الغلاف الجوي.
خلال العمل على التحقيق، حصلنا على تقرير تفصيلي صادر عن مصنع أسمنت الوطنية بمحافظة لحج يشير إلى أن نسبة استهلاك محطة الكهرباء للفحم الحجري لليوم الواحد هي نسبة عالية بمعدل 111 كجم لكل طن من الكلنكر (المادة الرئيسية في صناعة الأسمنت)، وهو ما يقترب من المعدل القياسي (700-725 كيلو كالوري/كجم).
تقرير من مصنع أسمنت الوطنية بشأن استهلاك الفحم الحجري لتوليد الكهرباء
يثبت الباحث في جامعة عدن عنتر الشعيبي في دراسته الأكاديمية، أن الملوثات البيئية المنبعثة تأتي على شكل غازات من مداخن محطة الفحم الحجري نتيجة عمليات الاحتراق في الأفران. وتكون بنسب مختلفة، حيث إن نسبة غاز ثاني أوكسيد الكاربون في حالته الطبيعية 0.04% من الغلاف الجوي، أما في بيئة مصنع الأسمنت فإن نسبته تزيد نتيجة استخدام الفحم الحجري كوقود لمحطة الكهرباء.
تكشف نتائج فحص عينات أجريت في إطار الدراسة، شملت 11 عينة من التربة بعمق 10 سم، منها 3 عينات من المحيط الداخلي لمصنع الوطنية للأسمنت، و8 عينات من المحيط الخارجي في 4 اتجاهات وعلى بُعدين - 500 متر و1000 متر عن المصنع، أن قيم معامل الإثراء للرصاص والنحاس والنيكل تقع في حدود التلوث المتوسط (2≤EF≤5) . أما قيم معامل الإثراء للكادميوم والزنك فتقع في حدود EF≥40 أي أنها في حدود التلوث الشديد الاستثنائي.
وفقًا لمنظمة وكالة حماية البيئة الأمريكية (EPA) [4] والدراسات العلمية في مجال تلوث التربة، يتم تصنيف معامل الإثراء (EF) كالتالي:
تم جمع 8 عينات من أوراق النباتات من المحيط الخارجي للمصنع في 4 اتجاهات مختلفة، وأظهرت النتائج تجاوز تراكيز العناصر الثقيلة للحدود المسموح بها دوليًا [5]. حيث بلغ متوسط تركيز الكادميوم 4.9 ميكروغرام/غرام، متجاوزًا الحد الطبيعي المسموح به عالميًا (0.2 ميكروغرام/غرام) بأكثر من 24 ضعفًا. كما بلغ متوسط تركيز الرصاص 8.37 ميكروغرام/غرام، متجاوزًا الحد الأقصى المسموح به (5.0 ميكروغرام/غرام) بنسبة 67%. تشير هذه القيم إلى تراكم خطير للعناصر الثقيلة في النباتات، مما يزيد من مخاطر انتقال هذه الملوثات إلى السلسلة الغذائية وتأثيرها السلبي على صحة الإنسان والبيئة."
أظهرت الدراسة انبعاثات مرتفعة لغاز أول أكسيد الكربون (CO)، الناتج عن عمليات الاحتراق غير التام في أفران مصنع الأسمنت، مما يشير إلى كفاءة احتراق منخفضة. كما بلغت انبعاثات أكاسيد الكبريت (SOx) 1.3 كيلوجرام لكل طن أسمنت، وهي نسبة تتجاوز المعايير البيئية المثلى لكنها لا تزال ضمن النطاق الصناعي الشائع. أما انبعاثات أكاسيد النيتروجين (NOx)، فقد سجلت 3 كجم لكل طن أسمنت، بينما تراوح تركيزها في الهواء المحيط بالمصنع بين 200-500 ملغ/م�، متجاوزًا الحد الأوروبي المسموح به [6] (200 ملغ/م�) بنسبة قد تصل إلى 250%، مما يزيد من المخاطر البيئية والصحية على السكان المحيطين.
وتكشف البيانات البيئية أن مصنع الوطنية للأسمنت يطلق مستويات مرتفعة من أكاسيد النيتروجين (NOx) في الهواء، حيث بلغت 428 mg/Nm� في مداخن طواحين المواد الأولية والفرن، بينما سجلت طاحونة الفحم 88 mg/Nm�. وبالمقارنة مع المعايير البيئية الأوروبية، التي تحدد الحد الأقصى المقبول عند 200-500 mg/Nm� للمصانع غير المزودة بتقنيات تخفيض الانبعاثات، يظهر المصنع عند الحد الأعلى المسموح به، مما يجعله مصدرًا لتلوث هوائي كبير.
وفي حين أن المعايير الدولية تفرض قيودًا صارمة على انبعاثات أكاسيد الكبريت (SO₂) وأول أكسيد الكربون (COx)، لا يمتلك المصنع أي أنظمة رقابة أو أجهزة تحكم لمتابعة مستويات هذه الغازات، مما يعني أن الملوثات تنبعث إلى الغلاف الجوي دون أي قيود أو مراقبة بيئية. وتشير التقديرات الدولية إلى أن الحد الأقصى المسموح به لانبعاثات SO₂ يجب ألا يتجاوز 400 mg/Nm� في المصانع التقليدية، بينما يجب أن تبقى مستويات COx أقل من 100 mg/Nm� للحفاظ على كفاءة الاحتراق وتقليل الأضرار البيئية. لكن في غياب أجهزة قياس، لا يمكن التأكد مما إذا كان المصنع يلتزم بهذه الحدود أو يتجاوزها.
وتؤكد الدراسة أن الشركة الوطنية للأسمنت لا تمتلك المعدات الحديثة اللازمة للسيطرة على الانبعاثات الغازية والأبخرة الملوثة الصادرة عن محطة الفحم الحجري، مما يزيد من مستويات التلوث الهوائي في المنطقة المحيطة بالمصنع. وتبرز هذه المشكلة في ظل غياب أنظمة تصفية وانبعاث متطورة، مثل مرشحات الجسيمات وأنظمة امتصاص أكاسيد الكبريت والنيتروجين، والتي تعتبر ضرورية للحد من الملوثات الخطرة التي تؤثر على صحة السكان والبيئة.
الأدخنة المنبعثة من مصنع الوطنية للأسمنت في محافظة لحج (دراسة الباحث عنتر الشعيبي بجامعة عدن)
وعلاوة على ذلك، يفتقر المصنع إلى محطة معالجة مياه الصرف الصحي، ما يزيد من احتمالية تسرب الملوثات الكيميائية والمعادن الثقيلة إلى الموارد المائية القريبة، مما يشكل خطرًا مباشرًا على التربة، والنباتات، وحتى إمدادات المياه المستخدمة من قبل المجتمعات المحلية.
بدوره، يؤكد الخبير الجيولوجي البروفسور محمد متاش اليافعي، المتخصص في الطاقة الجيوحرارية، الأضرار الكبيرة الناجمة عن تشغيل محطة الفحم الحجري لمصنع الوطنية للأسمنت في محافظة لحج.
وقال لمركز سوث24: "الجسيمات المنبعثة من استخدام الفحم الحجري تكمن في الضباب الدخاني، الذي يؤدي بدوره إلى هطول الأمطار الحمضية. كما أن احتراق الفحم ينتج عنه إطلاق جزيئات الرماد المتطاير في الغلاف الجوي، والتي تتحرك عبر الرياح باتجاه السكان في مديريتي الملاح والمسيمير مما يساهم في مشاكل تلوث الأراضي الزراعية والمسطحات والآبار المائية والهواء".
وأشار البروفسور اليافعي إلى أن محطات الفحم الحجري تتسبب بإطلاق جزيئات بعض العناصر السامة. ومنها على سبيل المثال لا الحصر، جزيئات الزئبق والزرنيخ والكادميوم، وهي مواد متطايرة يمكن أن تنتقل إلى الغلاف الجوي لتتساقط مع الأمطار وتترسب في بعض الوديان والأراضي الزراعية والآبار والسدود والخزانات".
أيضًا، أكد اليافعي العلاقة المباشرة بين محطة الفحم الحجري وتغير المناخ، نتيجة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المسبب الرئيس للاحترار العالمي وتآكل طبقة الأوزن.
المسار القانوني
يوفر القانون اليمني والاتفاقيات الدولية إطارًا قانونيًا شاملاً يلتزم بضمان أقصى حدود الحماية لحقوق الإنسان والبيئة والثروة الحيوانية، والمحاسبة والرقابة على الشركات والمصانع التي تعمل بالقرب من المناطق الحضرية.
وقد تم تحديد هذه النقاط بشكل واضح في القانون اليمني رقم 26 لعام 1995 بشأن حماية البيئة [7]، الذي نص على (حماية المجتمع وصحة الإنسان والكائنات الحية الأخـرى مـن كافـة الأنشطة والأفعال المضرة بيئيًا أو التي تعيق الاستخدام المشروع للوسـط الطبيعي).
كما نص القانون أيضًا على أنه (لكل مواطن حق أساسي في العيش في بيئة صحية ومتوازنة تتفق مع الكرامة الإنسانية تسمح له بالنمو الصحي الجسماني والعقلي والفكـري يلتزم كل شخص طبيعي ومعنوي بالمحافظة على البيئة ومواردها الطبيعية ومنع الأضرار البيئية ومكافحة التلوث).
وينص أيضًا على أنه (تقع مسئولية المحافظة على البيئة ومواردها الطبيعية ومكافحة التلوث وحماية الحياة البرية والبحرية على عاتق سلطات الدولة الرسمية والمؤسسات العامة والخاصة وكذلك الأفراد).
في حين نصت الفقرة التاسعة ضمن المادة الثالثة على التالي: (كل من أحدث ضررًا بالبيئة تحمل مسئولية جميع التكاليف الناجمـة عن إزالة الضرر فضلًا عن التعويض عنه).
دوليًا، أرست اتفاقيات مثل إعلان ستوكهولم [8] (1972) والاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة [9] بشأن تغير المناخ (1992) مجموعة من المبادئ التي تشكل حجر الأساس في حماية البيئة وضمان حقوق المجتمعات في بيئة نظيفة وآمنة.
في طليعة هذه المبادئ، يبرز مبدأ "عدم الإضرار"، الذي يلزم الدول والشركات بضمان أن أنشطتها الصناعية لا تسبب أضرارًا بيئية جسيمة، سواء داخل حدودها أو خارجها. هذا الالتزام القانوني يهدف إلى الحد من التلوث العابر للحدود وضمان عدم تعريض السكان للأمراض الناجمة عن الانبعاثات السامة والمخلفات الصناعية.
لكن الالتزام وحده لا يكفي، إذ يأتي مبدأ "الملوث يدفع" ليضع حدًا لممارسة الإفلات من العقاب، حيث يُلزم الجهات المتسببة في التلوث بتحمل تكاليف الأضرار البيئية والصحية، سواء عبر التعويضات المالية للمتضررين أو من خلال إجبارها على تنفيذ إصلاحات بيئية جذرية. هذا المبدأ أصبح الأساس للعديد من القضايا القانونية المرفوعة ضد الشركات الصناعية الكبرى، التي أُجبرت في بعض الدول على دفع مليارات الدولارات كتعويضات عن أضرارها البيئية.
وضمن المساعي لضمان حق المجتمعات في بيئة سليمة، نصت القوانين الدولية على مبدأ "الشفافية وإشراك المجتمع"، الذي يفرض على الحكومات والشركات الإفصاح العلني عن مستويات التلوث والانبعاثات، وإتاحة الفرصة للمنظمات البيئية والمجتمع المدني لمراقبة أداء المصانع والمنشآت الصناعية. هذا المبدأ لا يعزز فقط المساءلة، بل يمنح السكان القدرة على المطالبة بإجراءات تصحيحية قبل تفاقم الكارثة البيئية.
ومع ذلك، فإن أي نظام بيئي مستدام يتطلب مساءلة صارمة، وهو ما يعكسه مبدأ "المسؤولية البيئية"، الذي ينص على ضرورة فرض غرامات وعقوبات قانونية على الجهات المخالفة، مع ضمان عدم تكرار التجاوزات عبر تعزيز الرقابة البيئية وتفعيل القوانين الرادعة. ويكتسب هذا المبدأ أهمية خاصة في الدول التي تعاني من ضعف تطبيق القوانين، حيث يتم استغلال الثغرات القانونية للتملص من المحاسبة.
نضال المجتمع
في محاولة لحماية أنفسهم من التلوث البيئي والصحي الناجم عن مصنع الوطنية للأسمنت، لجأ سكان مديريتي المسيمير والملاح بمحافظة لحج إلى عدة إجراءات احتجاجية وإدارية خلال السنوات الماضية. شملت هذه التحركات مذكرات رسمية موجهة إلى محافظ لحج والهيئة العامة لحماية البيئة، وشكاوى للسلطات المحلية، إضافة إلى تنظيم وقفات احتجاجية أمام المصنع، للمطالبة بوقف الانبعاثات والتلوث الناجم عن استخدام الفحم الحجري في تشغيل المصنع.
رسالة حديثة من شخصيات اجتماعية في مديريتي المسيمير والملاح بمحافظة لحج إلى محافظ المحافظة بشأن مشكلة مصنع أسمنت الوطنية
ورغم تكرار المناشدات، جاء التفاعل الرسمي محدودًا، حيث اقتصر على إصدار قرار في عام 2021 بتشكيل لجنة برئاسة المهندس فيصل صالح الثعلبي، رئيس الهيئة العامة لحماية البيئة، بهدف دراسة وتقييم الآثار البيئية الناجمة عن أنشطة المصنع. إلا أن نتائج هذه اللجنة لم تفِ بتوقعات السكان.
وثيقة رسمية حصل عليها فريق التحقيق، صادرة عن مكتب وزارة حقوق الإنسان في لحج وموجهة إلى وزارة حقوق الإنسان، أكدت وجود آثار صحية وبيئية جسيمة ناتجة عن تشغيل محطة الفحم الحجري في المصنع. كما كشفت مديرة مكتب حقوق الإنسان بالمحافظة، حياة الرحيبي، أن اللجنة التي شُكّلت في 23 نوفمبر 2021، وضمت أربعة مختصين وأربعة ممثلين عن الأهالي، استأنفت أعمالها في 28 نوفمبر 2021. ورغم ذلك، لم تقدم اللجنة أي تفسير واضح للأمراض المنتشرة بين السكان، ما دفع الأهالي إلى تجديد مطالبهم بوقف استخدام الفحم الحجري في المصنع.
مذكرة من مكتب حقوق الإنسان بمحافظة لحج حول نشاط مصنع أسمنت الوطنية وتأثيره على المجتمع
على مدى أكثر من شهرين، حاول فريق التحقيق التواصل مع الجهات المختصة لمواجهتهم بالحقائق والوثائق التي حصل عليها، لكن دون جدوى. مدير مكتب الهيئة العامة لحماية البيئة في لحج، فتحي الصعو، وبعد ممانعة لفترة طويلة أحالنا إلى إسماعيل الهلي، أحد الموظفين بالمكتب. لكن المماطلة استمرت إلى لحظة نشر هذا التحقيق.
بينما رد المهندس فيصل صالح الثعلبي، القائم بأعمال رئيس هيئة العامة لحماية البيئة، رئيس اللجنة المكلفة بتقييم الوضع خلال الفترة السابقة، في اتصال هاتفي مقتضب قائلًا: "كيف سيعمل المصنع في ظل انقطاع الكهرباء وارتفاع أسعار المحروقات؟". في تبرير لتشغيل لمحطة الفحم الحجري، رغم المأساة الإنسانية التي تسببها.
أما إدارة المصنع، فقد تواصل الفريق مع مديره سالم بدرـ الذي وعد بتحديد موعد للقاء والإجابة على جميع الأسئلة، لكن وعلى مدى شهر من المتابعة، لم يتم التجاوب أو الرد على أي استفسار، ما يعكس غياب الشفافية في التعامل مع القضية.
بحسب مدير مكتب الصحة والسكان في المديرية، أحمد السيد، ومدير مكتب الزراعة والري في المسيمير، عبد الحبيب محمود صالح محمد، لا تزال نتائج التقارير الصادرة عن اللجان التابعة للسلطة المحلية غير معروفة ولم تُسلَّم للمكاتب المختصة. ويأتي هذا الغموض في ظل اتهامات صريحة من الأهالي بتواطؤ تلك اللجان مع إدارة المصنع لتحقيق مصالح مشتركة.
في ظل تغاضي السلطات الرسمية، يدفع السكان ثمن التلوث المستمر بأرواحهم وصحتهم، بينما تتساقط الأشجار وتتدهور البيئة الزراعية بفعل الانبعاثات السامة. ومع استمرار التجاهل الرسمي، يظل السكان في محيط المصنع ينتظرون تدخلًا عاجلًا لإنقاذهم من كارثة بيئية وصحية متفاقمة.
مختار شعتل
صحفي مهتم بقضايا المجتمع المحلي في محافظة لحج بجنوب اليمن.

