آخر تحديث :الجمعة - 19 أبريل 2024 - 11:25 ص

كتابات واقلام


في معنى التضامن المدني واشياء أخرى!

الأحد - 20 مايو 2018 - الساعة 01:10 ص

د. قاسم المحبشي
بقلم: د. قاسم المحبشي - ارشيف الكاتب


أنا لست نادما ولكنني متحيرا! التضامن ليس فكرة ولا قيمة أخلاقية ولا ثقافة مدنية فحسب بل هو جوهر وأصل كل حياة اجتماعية مجتمعية من مجتمع النمل والنحل والقرود الى مجتمع الانسان العاقل ، ولا وجود لأي مجتمع بدون قيم تضامنية من أي نوع من الأنواع، وليس هناك أي فرق في حقيقته الحاجة التضامنية الفعلية سوى كان ذلك في مملكة الحيوان أو عالم الانسان؛ فقط الفروق تكون بنوعية التضامن؛ أما أن يكون تضامنا فطريا غريزيا كما هو الحال في مملكة النحل والنمل والقرود والغربان ما شابهها وأما يكون تضامنا تقليديا ميكانيكيا بداعي العصبية والحمية وروابط الدم والقرابة والعشيرة والقبيلة والمذهب والطائفة والحزبية وما شابها في من صيغ التضامن التقليدية في حياة الجماعات البدائية التي يكون الانتماء اليها بلا إرادة حرة ولا اختيار وهذا هو نمط التضامن الميكانيكي العمودي حسب دور كهايم ، وأما يكون تضامنا مدنيا عضويا كما هو حال تضامن المجتمعات الحديثية المؤطرة في كيانات وهيئات مؤسسية رسمية ومدنية قانونية، إذ يكون التضامن فيها ذات طبيعة أفقية يعتمد على الحرية الفردية والاختيار الفردي النابع من الذات لا على المرجعيات والهويات السابقة لها ، وباختصار يظل التضامن ضرورة حياتية وصيغة ممكنة لديمومة الحياة المشتركة للكائنات الحية والناس في كل زمان ومكان وهكذا ظل النمل مجتمعا تضامنيا بينما الصراصير لا تتضامن لان كل صرصور يعيش وحده ، هذا هو رأي عالم الاجتماع الفرنسي دوركايم وليس أضغاث أحلام! وهكذا لم ينتصر الصبي السيد الحوثي الصغير صاحب صعدة على صنعاء والشمال الا بتلك القوة التضامنية الطائفية الميكانيكية التقليدية، بينما اخفقت ما يسمى بقوى المجتمع المدني في أن يكون لهم وجودا ووزنا فعليا في التصدي لهذا التحدي، ذلك لانها للأسف الشديد كانت ومازالت تعتقد أن الوطنية والمجتمع المدني هو مجرد فكرة ثقافة مدنية سلامية ناعمة بلا شعر ولا ريش ولا مخالب ولا أنياب، مثل العصيدة الرطبة الخالية من البثور، وهذا ما يجعلها سهلة البلع والهضم . لا وجود لمجتمع مدني وطني بدون قوة تضامنية فعالة وقادرة على حماية نفسها ومجتمعها ضد أي عدوان خارجي أو داخلي قوة تضامنية عضوية قادرة على الدفاع عن أعضاء مجتمعها والوقوف ضد كل ما يهدد سلامه السياسي والاجتماعي والمدني ! وهذا هو المبدأ الفعّال في كل حياة مشترك من خلية المجتمع الأولى العائلة حتى الهيئة العامة للأم المتحدة، إذ أن قيمة ومعنى المنظمات والمؤسسات والكائنات من أصغرها الى أكبرها يتحدد بقدرتها وقوتها التضامنية الفعلية وليست المتخيلة، كما يعتقد العرب في الجامعة العربية وتحالفاتهم وقممهم الرملية. والفكرة الأساسية في مقاربة المجتمع المدني هي تلك التي تنطلق من النظر إلى المجتمع ككل بوصفه عدداً من المجالات, متناغمة مع قوى واحتياجات الذات الإنسانية الاجتماعية؛ قوة الحب والعلاقات الحميمية, في المجال الخاص, مجال الأسرة, مؤسسة القرابة التقليدية الأولى, والقوة العاقلة والعلاقات الضرورية للحياة الاجتماعية المشتركة, المجال العام, مجال السياسة والسلطة, والقوة الغريزية المتعطشة إلى الإشباع المادي, المجال الاقتصادي, وعلاقات السوق حيث المنافسة والربح والاحتكار, وقوى الموهبة والاهتمام, حيث يجد الإفراد فرص التعبير عن مقدراتهم وتطلعاتهم ومواهبهم واهتماماتهم الحرة, مجال العلاقات المهنية والحرفية الإبداعية وغير الإبداعية, المجال المدني, حيث تختفي علاقات القرابة الحميمية, وعلاقات السياسة التسلطية, وعلاقات السوق التنافسية الربحية, هنا يمكن لنا التعرف عن المجتمع المدني في الرحم الحي لتخصيبه, ولكن هل يمكن للمجتمع المدني أن يتخصب وينمو ويولد ويزدهر من ذاته ولذاته وبدون قوى وشروط فاعلة؟ وبالنظر إلى المسار التاريخ للمجتمع المدني المفهوم والسياق، يمكن لنا الجواب على هذا السؤال بالنفي، ليس بمقدور المجتمع المدني أن يولد وينمو ويزدهر بدون وجود قوة تحميه أو تبيح له فرصة الوجود الفاعل والديمومة، وهذا هو ما يقوله لنا جون أهرنبرغ, في كتابه المهم, المجتمع المدني: التاريخ النقدي للفكرة, الذي تتبع صيرورة المفهوم منذ أفلاطون وحتى هابرمانس. في الحقيقة لم يظهر المجتمع المدني بشكله الأنضج إلا بعد استقلال المجال السياسي عن المجال الديني وهذا هو أهم منجزات العلمانية الحديثة في العهد الليبرالي إذ رأت النظريات الليبرالية أن المجتمع المدني يستلزم نظاماً قانونياً يدافع عن حقوق الملكية الخاصة والروابط المهنية ... فما يجعل من مجتمع ما مجتمعاً (( مدنياً)) هو أنه الموضع الذي ينظم فيه الناس أنفسهم بحرية في جماعات وروابط أصغر أو أكبر في مستويات متنوعة بغية الضغط على الهيئات الرسمية لسلطة الدولة من أجل تبني سياسات منسجمة مع مصالحها"_ يقصد تلك الجماعات المدنية المكتفية بذاتها. ويبين رتشارد سينيت في كتابه المهم( سقوط الإنسان العام ) الفروق الدقيقة بين المجال العمومي ومجال الحياة العامة (المجتمع المدني) والمجال الشخصي , فالمجتمع المدني هو مجتمع الغرباء, إذ أن المجتمع الحميمي يجعل الحياة المدنية أمراً مستحيلاً. فالناس لا يستطيعون تطوير علاقاتهم مع الآخرين إذا عدوها غير مهمة لكونها علاقات لا شخصية. والمجتمع الحميم على عكس تأكيدات أصحابه , هو مجتمع فظ؛ لان الحياة المدنية ( هي النشاط الذي يحمي الناس من بعضهم بعضاً, ويتيح لهم مع ذلك أن يتمتعوا برفقة الآخر) فالعيش مع الناس لا يستلزم ( معرفتهم) ولا يستلزم التأكد من أنهم ( يعرفونك) ... والحياة المدنية تنوجد عندما لا يجعل المرء من نفسه عبأ على الآخرين" على هذا النحو النظري العام يمكن لنا استخلاص: أن المجتمع المدني بوصفه مجالاً للحياة العامة المستقلة عن مجالات الحياة الأخرى، مجال السياسية ومجال القرابة ومجال الاقتصاد، ومجال الدين لا يمكن له أن ينمو ويزدهر ألا في ظل وجود دولة المؤسسات المنظمة بالدستور والقانون. أما على صعيد السياق المحلي فنحن نعني بمصطلح (منظمات المجتمع المدني) الفاعلون غير الحكوميين بكل تنوعاتهم بالتوافق مع الخصائص اليمنية والشركاء والاقتصاديين والاجتماعيين ومنهم منظمات اتحادات التجارة والقاع الخاص، والاتحادات المهنية والنقابية والإبداعية والحقوقية والأحزاب وجمعيات النساء والطلاب والمبادرات الخيرية لرجال الدين والنخب الاجتماعية بوصفهما جماعات غير ربحية. ولما كنت على وعي واضح من أن الحياة المشتركة في مدينة بحرية مثل عدن الحبيبية لا يمكنها أن تستمر وتنمو دون التضامن المدني الفعّال، وأي استجلاب أي شكل من أشكال التضامنات التقليدية اليها يعني خرابها المؤكد فقد سعيت طول حياتي في عدن من أجل ترسيخ وتعزيز منظمات المجتمع المدني والدعوة الدائمة الى حفظ وتنمية المؤسسات الوطنية العامة، ولم في مقدمت المتضامنين مع أي شخص ذكرا كان أو أنثى ، مؤسسة أو منظمة أو جماعة تتعرض لأي نوع من انواع الانتهاكات والتعدي، واتذكر بانني أكثر من كتب مقالات مطولة بل وقصائد شعرية في التضامن مع مؤسسة وصحيفة الأيام وعميد المرحوم هشام باشراحيل في محنتهما المشهورة، تضامن خالص مخلص دون أي غايات أخرى، كما بذلت الغالي والرخيص في سبيل تعزيز وتنمية العدد من منظمات المجتمع المدني في عدن في مختلف أشكال النضال السلمي وكنت شاهد ودافع لميلاد الكثير منها بل وألقيت محاضرات للعدد منمنتسبيها من النشطاء والناشطات الشباب، ولعل بعضهم يتذكرون! فضلا عن تضامني مع زملاء وزميلات كثر في الجامعة وخارجها حينما كان الأمر يستدعي التضامن، حتى في الحالات البسيطة التي ادعى بعضهما/ هن، في عدن بأنها تسبب لهم/ هن/إساءة وإنهاك للخصوصية الفردية.تضامنت بضمير نقي، ما كل من دعاني للتضامن معه دون أن اسأله عن حقيقة دعواه! ايمانا مني بضرورة تعزيز قيم الثقافة التضامنية المدنية في مدينة لا تحميل غيرها ابدا! إذ كنت ولا زلت من أشد خصوم التضامنات التقليدية العمودية في المدينة، مهما كلفني الأمر من متاعب وألم، كان ذلك ديدني منذ كانت طالبا في الجامعة، إذ كرهت الاصطفافات المناطقية والقبلية والحزبية الايدولوجية والطائفية بكل أنماطها وأشكالها، وحرصت على تنمية وتعزيز التضامنات المدنية المؤسسية الأفقية الانسانية الواسعة. كان هذا السلوك نابعا من قناعات راسخة في عقلي وضمير ولا زال كذلك. ولم أكون اتخيل بانه سوف يأتي اليوم الذي احتاج فيه الى التضامن المدني، ولكنه جاء غصبنا عني، إذ شاءت لي الحالة اليمنية أن أقع تحت طائلة التهديد بالتصفية الجسدية من قوى وعناصر مجهولة الهوية في عدن. وقد كتمت أمري وابلغت السلطات المعنية لعلها تتكفل في وضع حد لهذا التهديد الخطير من عناصر يصعب التكهن بسلوكها وردود افعالها في مدينة بات فيها القتل اشبه بمزحة كما قال احدهم البارحة! أخفيت الأمر عن كل أصدقائي وأهلي وانتظرت السلطات والاجهزة المعنية لتقوم بالبحث والكشف عن هوية الشخص الذي هددني والتحقق من أمره، ومنذ أكثر من عشر أيام تم تسريب خبر تهديدي في وسائل الإعلام ووسائل الاتصال الاجتماعي وانتشر كالنار بالهشيم! ومن ليلتها وأن استقبل البيانات التضامنية من الاشخاص والمنظمات من مختلف دول العالم بشكل لم أكن اتوقعه ابدا، وهذا ما منحني حالة من السلوى والسعادة في محنتي القاسية، غير أن الذي صادمني حتى الآن هو ذلك الصمت المريب الغريب العجيب ممن كنت أمنحهم ثقتي واعتقدهم أول من يعنيهم أمري اقصد أولئك الاشخاص والمؤسسات والصحف التي لم ابخل قط التضامن معهم حينما يدعوني للتضامن معهم أو أعلم أنهم بحاجة الى تضامني ! للأسف الشديد لم أجد حتى الآن تفسيرا ممكنا لمثل هذا الموقف المتخاذل. بينما وجدت تضامن رائع من كبار المفكرين العرب ومن شخصيات عالية المكان والقيمة ممن لا اعرفهم ولم يعرفوني من قبل، فشكرا لهم وعظيم التقدير مني. وجزيل الشكر والتقدير لك من أهتم بأمري أوكتب وسأل وتضامن حتى في القلب. أما أولئك المتخاذلين والصامتين فقد كان موقفهم بالنسبة لي درسا لن أنساه ابدا لاسيما أولئك الأشخاص أو تلك ألكيانات والمؤسسات التي أحسب نفسي أحد مؤسسيها ونخبها الفاعلة في البلاد العربيةوالأجنبية من ماليزيا والجزائر الى بيروت ومن عدن الى حضرموت، أما أخوننا في المملكة والخليج فالتضامن ليس من قيمهم! وأتمنى على الجميع قراءة ما كتبه الشباب الإعلامي المحترم مجاهد القملي في تعليقه الليلة في صفحته البالغ الدلالة والتعبير عن الحالة إذ كتب قائلا: " أفهم أنّ لا أحد يتضامن مع جثّه مضرجة بالدماء لا ملامح لها فالأمر مخيف والخوف لا يصنع متضامنين ..البغاة يبحثون عمّا يشبهها .. يبحث اللا وعي عن تفاصيل تعلق في الذاكرة مشهد ملامح عدو يتربص بقامة فكرية وعلمية كبيرة تثير حفيظة الناس وتحرك مشاعرهم انا أحس أنها أكثر من صور الجثث نفسها أمّا صورة الحدث العبقريّة بعد تنفيذ الجريمة والتي تمثّل ردّ الفعل الإنسانيّ الحيّ على كلّ الجنون الذي يحدث فهذا لا يحتاج إلى تضامن وشجب لأنه مثّلت صرخة على ركود المشاعر والقيم والإحباط العام ... ليحفظك الله الغالي الدكتور قاسم ودمت ذخرا وفخرا" حقا القول يا اللهي أعني على من كنت أحسبهم أصدقائي، فتبين لي بأنهم لم يكونوا يحسبوني كذلك فخذلوني، أما اعدائي فأنا أرهم ولا أخشاهم! وتختبر المعادن بالنار والناس بالتجارب والله في خلقه شؤون. ورمضان كريم.